قل للعين الَّتي انطفأت إنَّ النُّور في حالة حداد.

قل لليد الَّتي قُطعت، أو فَقَدت أصابع، إنَّها ما زالت تصافح... بالكرامة.

قل للخاصرة الَّتي بُقِرَت، إنَّها جرح مفتوح يذكِّر أمَّة بأنَّ ألمه يقيها كلَّ وجع.  

قل لمن استُشهد، إنَّه كتب بدمِه شهادة مقاوم: "أفتقد الرَّاحة. التَّعب ينهشني. لكنني سعيد. وسرُّ السَّعادة أن القضية التي نذرت نفسي من أجلها انتصرت، والغار يتوِّج هامة أبطالها. تعلَّمتُ أن المقاوم يجب أن يكون دائمًا متفائلًا. ما تشاءمت لحظة، وها إنِّي أحصِدُ سنابل نيَّاتي، وأقدِّم خبزها على وليمة رفاقي الشَّهداء، الشَّهيد منهم والحيُّ."

وقل لأهلي إنَّ كلَّ قضيَّة، ولو مقدَّسة، كثيرًا ما تكون جاحدة. ففي كلِّ قضيَّة مستحِقُّونَ... ومستَلْحَقون. وفي كلِّ ثورةٍ، في كلِّ قضيَّةٍ، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ،

كلُّ مُقاومٍ مقاوم، ما هَو إلَّا صرخةُ يوحنَّا... يمهِّدُ للخَلاص، وما استحقَقْنا يومًا أن نَحلَّ حبلَ حذائِه...

وقل للشيطان المتغطرس إنَّك مهما تمعِنْ حقدًا وإجرامًا، وحشيَّة وتدميرًا، عبثًا وعنجهيَّة، تؤكدْ لنا أنَّ لا إله لك إلَّا الصلف. فلتُدرك أن لا غد لك. إذ حيث يكون الله، يكون الغد. ولا غد من دون الله.

وقل للشَّيطان الأكبر وأذنابه إنَّك برعايتك الشَّيطان الصَّغير الآنف الذِّكر، تسقط عن نفسك أيَّ اعتبار لحقوق الإنسان والقيم الإنسانيَّة والقوانين والأعراف التي تدَّعي العمل بها، أو حمايتها.

وقل لهذا العالم... إنَّ هذا الوطن الصَّغير، لبنان، أكبر منه جميعًا، بجبينه المرفوع.

وقل لمن تبرَّع بنقطة دم، إنَّه كمن بذل نفسه عن أحبَّائه وإخوته.

وقل لمن شمت إنَّه ليس أهلًا لأن يكون إنسانًا.

وقل لمن هبَّ لمساعدة إنَّه كهبوب نسمة في عز آب.

وقل لمن طبَّب أو أسعف أو عالج أو داوى... إنه ملاك حارس.

***

غدًا حين ألتقي أعمى من ضحايا المجزرة، سأخجل، لأنَّه لا يراني.

وحين أصافح مبتور اليد... سأودُّ لو أتقاسم أصابعي وإيَّاه.

وحين أعانق جرحًا... سأنزُّ عنه، وأنا أهتف: فديتنا.

***

وجدتني بعد أيام الجنون الدموي، في تلك المجزرة الرهيبة، أنَّني جرح ما زال مفتوحًا منذ أمس بعيد، شعر في لحظة وطنيَّة تاريخيَّة أنَّه سيلتئم، ففوجئ بأنَّ موعده مع الشِّفاء ما زال بعيدًا، بل ثمَّة من يُعمل فيه السِّكين من جديد... إذذاك بعث برسالة ينزُّ فيها بألم عالي الصَّوت. وكتب:

لم نختر بعضنا بعضًا، أنا والأجساد التي انحفرتُ فيها، ليغيَّب أصحابها عن الصُّورة، فيحتلُّها من اختار منِّي اللَّونَ دون الصَّرخة، والشَّكلَ دون المضمون، والذِّكر دون الحقيقة.

لم أرتضِ الخطر مسكنًا، لأستبدل به اليوم كرسيًّا هزَّازًا في سلطة، أو مقعدًا وثيرًا إلى طاولة تجمُّع، أو موقعًا متقدِّمًا في جبهة سياسيَّة.

لم أرفض ملذَّات جنَّة الحكم، حين كانت أنهار "عسلها" تجري من أمامي، لا لأتلذَّذ به بل لإغراقي فيه، وآثرت عليها المقاومة حتى الاستشهاد.

لم أعضَّ على نفسي عزيزًا في وجعي، صابرًا على معاناتي، مغمورًا بشمس الرَّجاء، ليخدعني اليوم علاجٌ كان في بعضٍ من مكوِّناته سببًا لوجودي.

لم أنتظر عودة الغائبين على مفترق الأسى ودرب الشَّوق وشُرفة اللَّوعة وشبَّاك الحنين، لأهرعَ اليوم إلى عائد بحقيبة تجارة، أو زائر مستطلع، أو سائح عابر، يخدعني مجرَّد وصوله فأضمُّه.

لم أصلِّ على أضرحة الشُّهداء، لأجثوَ اليوم متوسِّلًا دورًا أو مكانة.

لم أبتلَّ بعرق المتعبين ودموع الثَّكالى والأرامل واليتامى، لأنتشيَ اليوم بخمر زائف، مزغولٍ بسراب.

لم أختنق بغُصص المقهورين، كي تنفرجَ أساريري اليوم لوجوه تبتسم... أمام كاميرا، أو لباعةٍ على عربات المواقف الجوَّالة، يسوِّقون الآمال المفخَّخة.

لم أتقدَّم التَّظاهرات، صادحًا بالحقِّ والحقيقة، معتصمًا بشعاعة شمس بعد طول ليل وفي ساحات الحرِّيَّة، شاهِرًا وجهي على حقيقته، متَّشِّحًا بالنُّبل وبعلم بلادي، لأقبلَ اليوم تسويةً على دمي، أو ترضيةً على تضحيتي، أو تربيتًا على كتفي.

لم ولم... وحسبي من الدُّنيا غدٌ، مهما بعُد، مهما تأخَّر، مهما تباطأ، لا بدَّ آتٍ.

غدٌ شمسُه تشرق من عيون شعب يريد أن يكون هو لا الآخر، سيِّدَ نفسه وقراره، آماله وآلامه واحدة.

غدٌ أرضه تفرح بأقدام أهله، المقيمين والعائدين، تطأها، فتنبسط أمامهم مساحة للفرح، وفسحة للتَّلاقي والحوار والطُّموح.

غدٌ دستوره الحرِّيَّة، وكتابه الشِّعر والعلم والنَّغم، ومسرحه أن يكون الإنسان لا أن يقتني، ممهور بختم الزَّمن الجيِّد واللَّحظة الخصيبة.

غدٌ ثمرته نظامٌ لا يُلغى فيه أحدٌ، لكنَّ الجميع فيه ممثَّلون ببصماتهم هم، لا بقفَّازات غيرهم، ومتساوون حقوقًا، وخاضعون واجباتٍ.

غدٌ لا يملأ من يحتلُّ الصَّدارة فيه، الكرسيَّ فحسب، بل الزَّمان جميعه، والطُّموح بأربعة أقطاره، والمستحيل من أوَّل نقطة فيه إلى آخر نقطة.

غدٌ يحلِّق بضمِّ جناحَي طائر لم تقوِّضهما قضبان سجن، مهما عتت ثوانيه. يتَّسع لنبرة صوته الَّذي لم تخنقه عَتَمَة، مهما حلكت. يتَّكئ على صلابة موقفه الَّذي لم تبدِّله ريح تجنُّ أو نسمة تلفح.

غدٌ ينتفض على نفسه، كلَّ هنيهة، لأنَّه يرفض أن يكون عاديًّا، بل لا يرضى إلَّا بالتَّميُّز والفرادة...

غدٌ هو سلَّة هدايا وأحلام لأطفال كان الموت والخوف والهجرة والتَّهجير لعبتهم وملعبهم، ينتقون منها ما يريدون وإلى ما شاءوا وشاء الله، وكمثل سلال السَّمك تلك، لا تنقص منها هديَّة أو حلم.

حسبي، أنا الجرح، هذا الغدُ... ليس إلَّا. ولن يكون غدٌ غيره... وحياةِ كلِّ من ذكرتُ وأحببت.