كأوراق الخريف، تساقطوا الواحد تلو الآخر، عن شجرة الكلمة، في أقلَّ من شهر، وأكثرَ من دمعة وغُصة. أحسسنا أنَّنا مثلُهم، ونحن في خريف العمر، ورقة على تلك الشَّجرة. وإذ تطلَّعنا من حولنا، وجدنا أنفسنا وحيدين على الغصن، حيث كانوا قبل قليل... لكنَّهم الآن تحت التراب.
الرِّوائيُّ اللبنانيُّ الهوِّيَّة الفلسطينيُّ الهوى الدكتور الياس خوري، الشَّاعر جورج شكُّور، الأديبة الدكتورة نور سلمان، الباحث الكاتب جان داية، أربعة من أعلام الكلمة، ارتحلوا إلى حيث لا حزن، لا ألم، لا دموع.
لكنهم لم يموتوا، حين أعلنت وفاة كل منهم. جميعهم في آخر أعمارهم، مرضوا، أو انعزلوا، وعانوا الألم طويلًا، حتى انقطعوا عن ناسهم، هم الذين ملأوا الساح الثقافية حضورًا وتأثيرًا، زمنًا طويلًا... فماتوا قبل أن يموتوا.
خوري
الياس خوري آخر الراحلين من الأربعة، في 15 أيلول 2024، هو الذي ولد في الأشرفية عام 1984. سرقته قضية فلسطين من اهتمامات قوميَّة كبرى، وإن احتلت بيروت وأهلها والحروب التي دارت على أرضها، وعلى امتداد لبنان، جانبًا أساسيًّا من كتاباته.
انتمى إلى حركة "فتح"، عام 1967، ليلتحق الشاب العشريني بالجامعة اللبنانية، ويتخصص في التاريخ الاجتماعي الذي نال فيه شهادة دكتوراه من جامعة باريس.
إلى جانب التعليم الذي مارسه في جامعات أميركية وبريطانية وفرنسية وألمانية وسويسرية، وكذلك في الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية - الأميركية والجامعة اللبنانية، اشتُهر كصحافي يعنى بالشأن الثقافي خصوصًا. فعمل منذ العام 1972 في صحف فلسطينية تصدر من بيروت، ثم تسلَّم مسؤولية الصفحة الثقافية في "السفير"، قبل أن يحطَّ رحاله طويلًا في صحيفة "النهار" رئيس تحرير لملحقها الأسبوعي، في محاولة لإحياء تجربة الملحق السابق للصَّحيفة نفسها.
صادق الياس خوري محمود درويش الذي ترأس وإياه تحرير مجلة "شؤون فلسطينية"، وأصدر عنه لاحقًا كتبًا، بالاشتراك مع آخرين. لكنه اكتسب شهرة كروائي، غزير الإنتاج، أضاء في معظم رواياته، إما على قضية فلسطين، وإما على ما سماه الحرب الأهلية في لبنان... وقد تُرجم بعض رواياته إلى لغات أجنبية.
ولعل أبرز رواياته "باب الشمس". وهي عبارة عن سرد ملحمي لحياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ نزوحهم إليه عام 1948، ولا سيما منها مجزرة صبرا وشاتيلا، وقد تحولت فيلمًا سينمائيًّا بالعنوان نفسه، حمل توقيع المخرج المصري يسري نصر الله عام 2002.
وخوري الذي أيد ما سمي "الربيع العربي" وكان مناضلًا في تحركات 14 آذار، على أثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وأحد مؤسسي "حركة اليسار الديمقراطي"، غاب في آخر العمر عن المشهد الثقافي، إذ أصيب بمرض عضال، فأمضى معظم مراحله في المستشفى، وما زاد طين ألمه بِلة حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، في ما عرف بحرب طوفان الأقصى.
شكور
وفي 3 أيلول 2024 ارتقى إلى السَّماء، مَن حلَّق طويلًا في سماء الكلمة والقصيدة والمنبر، الأديب المربي جورج شكور، شاعر "الحاءات" الثَّلاثة: الحبّ والحرِّيَّة والحكمة... وكان ابتعد عن الأضواء، وانعتق في منزله، منذ حوالى العامين، لإصابته بمرض عضال.
ولد عام 1935 في شيخان (جبيل)، وتخصص في الأدب العربي الذي علَّمه في مدارس شتى. وبانت موهبته الشعرية باكرًا إذ بدأ ينشر قصائده وهو دون السابعة عشرة من عمره سواء عبر الإذاعة، أو في صحف ومجلات لبنانية. وكان أمير منبر، ممثلًا لبنان في احتفالات شعرية كبرى، أحدها إلى جانب سعيد عقل في ذكرى الشاعر المصري عزيز أباظة.
تضلع من اللغة العربية، وكان مرجعًا لها، وحافظ في شعره على القالب الكلاسيكي، ولكن بأفكار ورؤى وتراكيب حديثة. وإلى دواوينه الشعرية، ومنها "وحدها القمر" و"أشرعة الرحيل" و"زهرة الجماليا"، و"مرآة ميرا"، و"همسات للحلوين"، اشتهر بملاحمه الأربع التي خصَّ بها الأمام الحسين 2001، والنَّبي محمَّد، والأمام علي بن أبي طالب، والسَّيِّد المسيح تحت عنوان "مسيحنا المثال".
عرف عنه قربه من الراحل سعيد عقل، ومواكبته له، وصداقته إياه، وكان إلى شاعريته، يعمد إلى إلقاء قصائد شاعر "رندلى"، في المنتديات واللقاءات العامة والخاصة. وقد تجاورنا وتشاركنا في لقاء أقيم في زحلة، تولينا خلاله والسفير الراحل فؤاد الترك، إلقاء قصائد لسعيد عقل، في حضوره. وكم كان حضور شاعر "قدموس" محببًا، إذ حين كنَّا نختِم قصيدة، أو نردد بيتًا ينال استحسانًا وتصفيقًا، يهتِف من المقعد حيث استوى، بربطة عنقه الحمراء: "يسلم تمَّك يا سعيد".
داية
لم يدرك أيلولَ الكاتب الباحث الصحافي مؤرخ النهضة، من كان "يفلّي النَّملة والقملة"، انتصارًا للحقيقة... فرحل في 31 آب 2024، بعد طول صراع مع المرض، على أثر إصابته بجلطة دماغيَّة ألزمته الفراش أكثر من سنة ونصف السنة.
كتبتُ عنه في هذه الزاوية، في 24 نيسان الماضي، بعدما بلغ إلي أنه يتعافى ولكن ببطء، وكنت شاركت في ندوة عنه، في الحمرا. كان قامة بحثيَّة وفكريَّة، وقلمًا ما حاد يومًا عن الحقيقة والصِّدق والموضوعيَّة.
ولد في أنطلياس عام 1936. إيمانه بالفكر السوري القومي الاجتماعي جعله يُكبُّ على دراسة أعلام النهضة، من المعلم بطرس البستاني، إلى جبران خليل جبران، فعبدالرحمن الكواكبي، وجبران التويني الجد، وصولًا إلى سعيد تقي الدين، فضلًا عن تخصيصه أنطون سعادة بأكثر من كتاب، خصوصًا حين وقع على نسخة من كتاب "نشوء الأمم"، في صيغته الأولى، تتميز بأنَّ سعادة عدل فيها، بخطِّه، ليصدر النسخة الثانية من الكتاب نفسه. فاكتشف داية، وفق جدول مقارنة، كيف حوَّرت القيادة الحزبية بعضَ أفكار سعادة، حين نُشر الكتاب بعد وفاته.
أما كتابه "لكم جبرانكم ولي جبراني"، فنسأل ما الذي دفع جان داية إلى صرف وقت كثير وجهد مضن، لنبش تفاصيل صغيرة في حياة صاحب "النبي"؟ والجواب أن داية اكتشف، من جراء هذا البحث، تزويرًا وتحويرًا في مقالات لجبران، فضلًا عن أنه أضاء على جوانب من شخصية صاحب "المواكب" وسلوكه لم تكن قبلًا معروفة.
سلمان
أما الأديبة نور سلمان التي كانت حاضرة في المشهد الثقافي، أديبة وأستاذة جامعية، فآثرت الابتعاد، تعاني وحدها العزلة، من دون أن تنقطع عمن تقدر وتحب، عبر الهاتف، ورحلت في 30 آب 2024.
ولدت عام 1937، في بيروت، وكأني بها سارت على خطى والدتها الناشطة الاجتماعية والمناضلة الحقوقية السيدة زاهية سلمان، فتخصصت بالأدب العربي والأدب المقارن، ونالت الدكتوراه من جامعة القديس يوسف، ودرَّست في الجامعة اللبنانية، ورأست الهيئة الوطنية للطفل اللبناني.
تنوعت الموضوعات التي كتبت عنها، ولا سيما منها مواقف البطولة والمقاومة والعنفوان، فضلًا عن روحيتها اللبنانية الصارخة. كانت شاعرة رقيقة، يضج شعرها بالحنين، ومهجوسة بالجمال.
من أبرز مؤلفاتها: "يبقى البحر والسماء: قصص قصيرة"، "إلى رجل لم يأتِ"، "العين الحمراء"، "لفجر يشقُّ الحجر"، "فجر للغضب"، "أنثر أنشودتي فوق الخيبة"، "رغم كل هذا..."، "الهجرة إلى الورق"، "ولكن"، فضلًا عن دراسات أكاديمية عن جبران خليل جبران وفن الموشحات والصوفية والرمزية والحداثة والمرأة والإعلام.
أربعة أقلام أدبية... تساقطت. وشجرة الكلمة تعد بربيع آخر.