لم تدرِج وزارة المال في مشروع موازنة 2025 الذي رفعته إلى الحكومة المؤشرات الماكرو - اقتصادية التي استندت إليها في وضع أرقام المشروع. ولعلّ من أهمّ هذه المؤشّرات سعر برميل النفط، الذي له تأثير مباشر على الإنفاق وعلى الإيرادات في أيّ موازنة.

من المعروف أنّ النفط يدخل في صناعة أكثر من 95% من السلع والبضائع التي نستهلكها وتعليبها ونقلها واستهلاكها. وبالتالي، فإنّ أيّ ارتفاع في أسعار النفط سيؤدّي حكمًا إلى تآكل القدرة الشرائية ومعها مداخيل الدولة الناتجة من تراجع النشاط الاقتصادي. كما أنّ إنفاق الدوّلة يزداد نتيجة اعتمادها في الأمور التشغيلية على النفط (إنارة...)، وهذا يعني أنّه سيكون هناك حتمًا عجز في الموازنة إذا ما كان سعر برميل النفط المُعتمد في الموازنة غير مؤاتٍ للتوقعات المُستقبلية.

علمًا أن أسعار النفط العالمية تتأثّر بعدّة عوامل، منها: التوترات الجيوسياسية التي ترفع من السعر، والركود الاقتصادي الذي يُخفّض سعر برميل النفط، والتضخّم في الولايات المُتحدة الأميركية يرفع من سعر برميل النفط، والمخزون الإستراتيجي وعدد آبار الحفر في الولايات المُتحدة الأميركية، وحجم إنتاج دول الأوبك+، والمُضاربة التي تتلاعب بالسعر صعودًا ونزولًا بحسب الفرص المتوافرة. وإذا ما أُخذت في الاعتبار هذه المُعطيات وطُبّقت على الواقع الحالي، تبيّن أنّ أسعار النفط تنخفض تحت التأثير القوي لوضع الاقتصاد العالمي، وخصوصًا طلب الصين المتراجع على النفط، كذلك زيادة حفارات النفط في الولايات المُتحدة الأميركية وقد ارتفع عددها في الأسبوع الماضي إلى 590 حفّارة. لكن هل يستمر انخفاض سعر برميل النفط؟

على الرّغم من انخفاض سعر برميل النفط الخام الأميركي إلى ما دون الـ 70 دولارًا أميركيًا، فإنّ عمليات السحب المستمرة من مخزونات النفط العالمية ستؤدّي إلى دفع الأسعار إلى مستويات عالية، أقلّه خلال الأسابيع المقبلة. وتؤكّد البيانات التاريخية لمستوى التغيّرات (Volatility) أنّها أصبحت تلامس الـ 40%، وهذا يعني أنّ إمكان التقلّب السريع على المدى القصير مُرتفع جدًا. أضف أنّ مُنظّمة أوبك+ أعلنت أنّها ستؤجل زيادات الإنتاج حتى كانون الأول المُطل، وهو يعني أنّ استهلاك المخزون وقلّة العرض من أوبك+ سيؤدّيان إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات الـ 80 دولارًا للبرميل الواحد.

وبما أنّ التوازن في موازنات العديد من الدول المُنتجة للنفط لا يحقّق إلّا بسعر للبرميل يقارب مستويات الـ 90 دولارًا أميركيًا للبرميل الواحد، لذا يُمكن الاستنتاج أنّ خفض دول الأوبك+ الإنتاج سيستمر في النصف الأول من العام 2025 (أقلّه) حتى يبلغ مستوى سعر برميل النفط إلى هامش يراوح بين الـ 80 و 90 دولارًا.

يُذكر أنّ احتمال عودة النمو الاقتصادي في الاقتصادات الغربية (الولايات المُتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي)، خصوصًا بعد خفض سعر الفائدة فيها، من المتوقّع أن يواكب النمو في تلك الاقتصادات نموًا في الاقتصاد الصيني، وهو ما سيؤدّي إلى رفع الطلب على النفط إلى مستويات سيُحدّدها حجم إنتاج دول الأوبك+.

Figure 1: WTI Crude Oil Spot Price - Source: YCHARTS



Figure 2: US Rig Count - Source: YCHARTS

من هذا المُنطلق، سيحدث أيّ توقّع لسعر برميل نفط في مشروع موازنة العام 2025 بأقلّ من 80 دولارًا، عجزًا في مشروع الموازنة، وهو ما يطرح مُشكلة تمويل هذا العجز. فالمشروع بذاته طرح في إحدى مواده السماح للحكومة بالاقتراض من خلال إصدار سندات خزينة بالليرة. ولكن من سيُقرض الدولة خصوصًا بعد تعثّرها العشوائي في آذار من العام 2020 وعدم حلّ مُشكلة الدين العام مع المُقرضين؟ وبالتالي، فإنّ الجهة الوحيدة التي ستقوم بعملية الإقراض هي مصرف لبنان بعد إقرار بند في الموازنة يُلزمه بإقراض الحكومة، وهو أمرٌ شدّد عليه الحاكم بالإنابة وسيم منصوري.

وليس خافيًا أنّ ارتفاع سعر برميل النفط عالميًا واقتراض الدولة من مصرف لبنان لتمويل عجز موازنة العام 2025، سيفضيان إلى زعزعة الاستقرار النقدي، خصوصًا أنّ ارتفاع سعر برميل النفط سيؤدّي إلى استهلاك كمّية أكبر من الدولارات لشراء الكمّية نفسها. الجدير ذكره أنّ لبنان لا يزال يستورد للاقتصاد اللبناني والاقتصاد السوري، وأنّ وضعه على اللائحة الرمادية سيكون له تعقيدات على صعيد الموافقات المُسبقة للمؤسسات الدولية (وبالتحديد البنك الدولي) على فتح الاعتمادات لشراء السلع والبضائع.

في جميع الأحوال، إنّها طبخة مُعقّدة جدًا، إذ ليس في بنود مشروع موازنة العام 2025 أي مُعالجة للمواضيع المطروحة أعلاه. وبالتالي، ستكون الموازنة كسابقاتها من حيث العجز والتلكؤ في مُعالجة الأمور من خلال إصلاحات جوهرية تشمل الاقتصاد والمالية العامة والقطاع المصرفي. أكثر من ذلك، سيكون للتلكؤ في إجراء الإصلاحات في الموازنة المقبلة، وقعٌ كبير على المهلة التي سيتطلّبها الاقتصاد لاستعادة عافيته، وعلى المهلة التي يُمكن من خلالها إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي وحلّ مُشكلة الودائع.

يبقى القول إنّ هذه الحكومة التي هي حكومة تصريف أعمال، لا تتمتّع بصلاحيات كاملة، وبالتالي، هي عاجزة عن القيام بالإصلاحات المفترضة. بمعنى آخر، إنّ كلّ الأمور أصبحت مُعلّقة على قدرة القوى السياسية على حلّ الصراع السياسي القائم وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أصيلة قادرة على القيام بالإصلاحات المطلوبة منها.