على منوال مقولة الكبير سعيد تقي الدين: "أفصح ما تكون به القحباء، حين تحاضر في العفاف"، أنسجُ مقولات، الجامع المشترك بينها صفة "أفضل التَّفضيل"، ليس إلَّا. فلـ"أفعل التفضيل" في اللُّغة العربية مكانة مرموقة. والنَّاس يميلون إلى صيغته، في كتاباتهم وأحاديثهم، حبًّا بالمبالغة والتَّفخيم والتَّعظيم، أو توكيدًا لأمر صعب التَّصديق، أو ترجمة لرغبة داخليَّة على أنَّها مبدأ عام.

وعليه، أراني مثلهم اليوم في نظرتي إلى أحداث وقضايا تهمُّ كثرًا:

- ما أجرأ القامة التي تنتصب وسط الجموع، تعد وتتوعَّد، وتخلع عنها ثياب الرسميَّات لتبدو "شببلكيَّة" قريبة من النَّاس، وتروح ترسم لهم الأحلام والوعود على دفاتر اللَّحظات الآتية، حين تغافل الجموع وتخطف رجلها إلى مكان مجهول، في ليلة ليلاء، بحجَّة الخوف على أناقة تلك القامة وسحر حضورها وتأثيرها الصَّارخ في من تظلِّلهم، كأنِّي بصاحبها الممعن في الغياب، يردِّد مع الشَّاعر المجهول:

      أَرَى أَنِّي إِذَا مَا الْحَرْبُ قَامَتْ

      أُرَابِطُ خَلْفَ رَبَّاتِ الْحِجَالِ

     أُحَمِّسُ فِي الْوَغَى أَبْنَاءَ قَوْمِي

     وَأَحْمِي ظَهْرَهُمْ عِنْدَ النِّزَالِ

     وَفِي الْهَيْجَاءِ مَا جَرَّبْتُ نَفْسِي 

     وَلَكِنْ فِي الْهَرِيبَةِ كَالْغَزَالِ...

هو ما جرَّب نفسه، واعترف بأنَّه غزال رجلاه تسابقان الرَّيح، لكن ثمة من لا يصِّدق، ويريد أن يجرِّبه بعدُ في الوغى والقتال والهيجاء... فليحصِد معه، وحدَه، عواصف الآمال الموءودة، وأنواء الأحلام المنكسرة، وزؤان الوعود. 

- ما أرقَّ الجفن حين لا يرفُّ، يعلوه الدَّمع لحظة يتمسكن، ويعتمر الرِّياء ساعة يتمكَّن، وتسري منه الدَّعة إذ "يتكنكن". أمَّا حين تنكشف صفحات رفيفه عن غمز الفضائح والسَّمسرات ولمز السَّرقات وسوء الإدارة، فلا يسعنا إلَّا أن نغرِّد مع الأخطل الصَّغير:

   جَفْنُهُ عَلَّمَ الْغَزَلْ

   وَمِنَ الْعِلْمِ مَا قَتَلْ

   فَحَرَقْنَا نُفُوسَنَا

  فِي جَحِيمٍ مِنَ الْقُبَلْ.

أللَّهم أبعد عنا جحيمه وقُبله، وزدْ في علمه علمًا، ولتنفتح أمامه أبواب بيت خالته على مصاريعها. 

- ما أشذب اللِّحية وهي تتدلى من الذَّقن على الصَّدر، حين تخفي جهلًا وتعصُّبًا وطلاوة لسان وما يبدو للجاهل المتعصِّب فصاحةً وبلاغةً. وإذ تُحملق في ما تنطوي عليه تلك اللِّحية النَّابت لها رجل، تتذكَّر ابن الرومي وبيتيه الشَّهيرين:

      إِنْ تَطُلْ لِحْيَةٌ عَلَيْكَ وَتَعْرُضْ

     فَالْمَخَالِي مَعْرُوضَةٌ لِلْحَمِيرِ

     عَلَّقَ اللهُ فِي عِذَارَيْكَ مِخْلَاةً -

     وَلَكِنَّهَا بِغَيْرِ شَعِيرِ.

    ويصطفل من يرى الشَّعير قمحًا.

- ما أرقى المتحلِّقين حول طاولة القرار، حين يلبسون البزَّات وربطات العنق "السِّينييه"، تفوح منهم عطور، وهيبة حضور، وقطبة جبين تبعث في الواجف المنتظر قوةً وكثير حبور. حتَّى إذا جدَّ الجِدُّ، رثَّت حالهم، وبدوا كحال القاضي الشَّاعر بطرس نجيم الذي قال ذات يوم:

كْبِرْنا وْطَوَيْنا عَ الشَّباب كْتابنا

وْما عاد يِنْزَلْ بِالحساب حْسابنا

كِنّا انْ لِبِسْنا تْيابنا تِغْوى التّيابْ

وِالْيَوْم صِرْنا نِتِّكِلْ عَ تْيابنا.

   على ألله... وحسبُنا الله ونعمَ الوكيل.

- ما أصدق السِّياسيَّ حين يشهِّد أمواتًا لتبرير فعلته التي تُميت. يبعد شهوده، ويسترسل في سرد الوقائع ونسبها إلى المرحوم فلان والمرحوم علَّان، وكلَّما واجهته بحقيقة، نبش قبرًا وأخرج جثَّة شاهد، وجثَّة كلام. رحم الله الشاعر عمر أبو ريشة الذي حطَّم أصنام هؤلاء السِّياسيين، في أمَّة محطَّمة الطُّموح والعنفوان، حين قال:

أُمَّتِي كَمْ صَنَمٍ مَجَّدْتِهِ

لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ طُهْرَ الصَّنَمِ

لَا يُلَامُ الذِّئْبُ فِي عُدْوَانِهِ

إِنْ يَكُ الرَّاعِي عَدُوَّ الْغَنَمِ. 

انتخبوه بعدُ، بربِّكم... انتخبوه بعدُ. أبِّدوه على كرسيِّه، ثمة قبور كثيرة لم تُنبشُ بعد.

- ما أجمل الشَّاشة حين تنضح بالألوان الزَّاهية التي تبهر العين دون الروح، وبالوجوه السَّعيدة التي تفحُّ بدلًا من أن تتكلَّم، و"تُقَرْوِشُ" عوض أن تحلِّل، وتلتُّ وتعجن من دون أن تعطي خبزًا. كلُّ وجه يبعث على الحيرة في من هو، وفي ما يخبِّئ، حتَّى ليصحَّ ما قلتُه في مثله، في ديواني "جديد الجاهليَّة":    

نَحَارُ – وَاللهِ – إِذْ نَرَاهُ

أَوَجْهُهُ ذَاكَ أَمْ قَفَاهُ؟

فَكَيْفَ، قُلْ لِي، تُرِيدُنَا أَنْ

نَبْنِي عَلَى الشَّيْءِ مُقْتَضَاهُ؟

وما زال السُّؤال، مذذاك، بلا جواب. وأمَّا البناء فعلى رملٍ وزبد.

- ما أرفع الجباه حين "تشنِّك"، لا لتقول للغيم: حِدْ من طريقي أريد أن أمرَّ، بل لتحاول أن تناطحَ الكبرياء الفارغة. جبين مرفوع شكلًا، مجرور فعلًا بالكسرة التي ختم بها الشاعر موريس عواد إحدى قصائده، عن جباهٍ مماثلة:

تْصيرو شي كَسْرا تَحْت شي كِلْمي

وْمِشْ كِلّ مَرّا مْنِكْتُب الْكَسْرا.

... تنكسر يدي إذا كتبتُ جبينًا مماثلًا أو رفعتُه بكسرة. عذرًا سيبويه.

- تشابيه الحرِّيَّة كلُّها جميلة وفصيحة... لكنَّ أفصحها أنَّها كـ"الهمزة" الواقعة بعد حرف ساكن في آخر الكلمة.

- أجمل ما في سرب العصافير، وهو يجوب السَّماء، أنَّه كيفما اتَّجه، يمينًا أو شمالاً، شرقًا أو غربًا، يذكِّرني بقول السَّيد المسيح: الآخِرون يصبحون أوَّلين، والأوَّلون آخِرين.

- أشدُّ نعت آلمني حتَّى العظم، لحال المؤسَّسات الإعلاميَّة في لبنان، قول أحدهم إن هذه تحوَّلت شققًا مفروشة. فكل شقَّة يشغلها، على مزاجه، صحافيٌّ أو من وراءه: أنظامًا كان أم سياسيًّا أم متموِّلاً أم جهازًا أمنيًّا. رحم الله الرَّئيس شارل حلو الَّذي رحَّب بصحافيِّين لبنانيِّين في قصر الرِّئاسة، نهاية ستِّينات القرن الماضي، بقوله لهم: "أهلاً بكم في وطنكم الثَّاني لبنان".

- أسوأ ما في السِّياسة أنَّها فنُّ الممكن. فيما هي، وهي أخطر علم ما دامت مادَّته الرَّئيسة الإنسان، فنُّ المستحيل. وبعد، هل كثيرٌ إذا نعينا الحياة السياسيَّة في لبناننا الحبيب؟

- أطرف ما في المواصفات التي اشترط البعض توافرها في المرشَّحين إلى رئاسة الجمهوريَّة، أن يكون وطنيًّا عروبيًّا. هل اتَّفقنا أوَّلاً على معنى الوطن، وكلٌّ في زاروبه يغنِّي على "ليلى" وطنه؟ أمَّا العروبة... فما زال معناها في قلب المجهول، وكلِّ ما يمتُّ بصلة إلى كلمة مجهول هذه.

- ألذُّ ما في هذه الأيَّام التَّعسة أن أركان السُّلطة، في معظمهم، غائبون عن النظر والسَّمع، وعن الوعي... كرمى لعيني الاستحقاق، ما غيره.

- أكثر ما أكرهه، هو الكتابة. وأسعدُ لحظات عمري حين أصحو لأقرأ ما كتبت، قبل أن أغالبَ النُّعاس، فيغلبني.