لا قوانين انتخاب نيابية مثالية أو كاملة أو منزّلة، فمعيار نجاح أيّ قانون هو مدى قدرته على توفير أفضل صحّة تمثيل للفرد والجماعة في المجتمعات المركّبة. أمّا في لبنان، فلطالما شكّلت هذه القوانين مادّة خصبة للسجال وشدّ الحبال، ولطالما كانت نتاج موازين قوى وفُصّلت بناءً عليها، بحيث راح بعضهم يربط نجاح أيّ قانون بمدى تكبير حصّته في التمثيل ولو على حساب صحّة هذا التمثيل وصدقية الشراكة واحترام الميثاقية.

"لبنان دائرة واحدة مع النسبية" هو دعوة سافرة إلى بسط حكم العدد.

بعد انتهاء الحرب اللبنانية، شكّل القانون الانتخابي إحدى وسائل الانقلاب على "اتفاق الطائف" وأدوات الإمساك بالقرار النيابي بعدما عُدّل عدد النواب الذي ارتفع من 99 الى 108 - من أجل تكريس المناصفة - ليبلغ 128 نائباً، مطيحاً كلّ النقاشات والاتفاقات التي شهدتها مدينة الطائف في هذا الصدد. فوُزّهت المقاعد الجديدة خارج أيّ منطق علمي وبعيداً عن أيّة معايير، بل وفق المصالح والحسابات وما يساعد سوريا على تعزيز قبضتها في لبنان. فوضعت بعض المقاعد المسيحية في دوائر انتخابية الحضور المسيحي فيها ضئيل برغم وجود دوائر الحضور فيها أكبر وبقيت من دون تمثيل.

أصبح القانون الانتخابي المستوحى من قانون 1960 يُطبخ في عنجر - مع تعديلات "غبّ الطلب" في عدد الدوائر وحجمها، وخصوصاً في العاصمة بيروت – بالإضافة الى فبركة اللوائح. لذا ارتبطت تسمية قانون الانتخابات في العام 2000 باسم رئيس جهاز الاستخبارات السورية العاملة في لبنان اللواء غازي كنعان، حتّى بات يعرف بقانون "غازي كنعان".

مع خروج الجيش السوري في 26 أيار 2005، بقيت ملائكته حاضرة انتخابياً عبر اعتماد "قانون غازي كنعان" في انتخابات ذاك العام، وقد اشتهر بمنطق "المحادل"، بحيث حرم القانون الممثلين الحقيقيين للمكوّنات من الوصول إلى ساحة النجمة لمصلحة منبوذين في مكوّناتهم حجزوا مقعداً في "بوسطات" لوائح الأكثرية العددية والتحالفات "الفوقية". انعكس الأمر خصوصاً على صعيد سوء التمثيل مسيحياً إذ لم يكن باستطاعة المسيحيين إيصال أكثر من نحو 16 نائباً بأصواتهم. وهذا ما دفع بطريرك "الاستقلال الثاني" مار نصرالله بطرس صفير إلى الإعلان في أيار 2005: "الدستور أعطانا 64 نائباً ونريد 64 نائباً".

في العام 2008، عاد "العونيون" من الدوحة منتشين بما اعتبروه إنجازاً، وهو العودة إلى قانون 1960 الذي يعتمد الأقضية دوائر انتخابية، مروّجين أنّه سيصحّح التمثيل المسيحي. فرفع "التيار الوطني الحر" شعار "رجّعنا الحق لأصحابو". غير أنّ سقوط الوزير جبران باسيل للمرة الثانية - برغم اعتماد هذا القانون - أصاب "التيار" بالخيبة. عدا أنّه لم يحسّن التمثيل المسيحي على نحو يتيح إيصال نحو 30 نائباً فقط بأصوات المسيحيين. لذا نجح المسيحيون في وضع "فيتو" على استخدام هذا القانون، وهذا ما أطاح التمسّك به في الاستحقاق الانتخابي العام 2013 وفتح باب التمديد الى أن أبصر "القانون الانتخابي" المختلط النور في صيف 2017.

جرت انتخابات 2018 على أساس هذا القانون الذي عرف باسم "قانون جورج عدوان" ورفع صحة التمثيل المسيحي إلى نحو 55 مقعداً تُحدّد مصيرها أصوات المسيحيين. ثم اعتُمد مجدداً في العام 2022 مع عدم السير بثلاث نقاط فيه:

1- تعليق البند المتعلق بإضافة 6 مقاعد لتمثيل الاغتراب في الدورة الثانية لاعتماد قانون 2017، وذلك لأنّ هذا البند غير قابل للحياة ووضع فقط من أجل إرضاء باسيل كي لا يطيح ولادة "قانون عدوان" متحججاً به. فكيف توزّع هذه المقاعد في الانتشار ووفق أيّة معايير: هل يخصّص المقعد الدرزي لأستراليا والشيعي لأفريقيا مثلاً؟ وما جدوى انتخاب الاغتراب لمقاعد مخصّصة له إذا كان الهدف ربطه بلبنان المقيم؟

2- إطاحة البند الإصلاحي المتعلق باعتماد البطاقة الممغنطة التي تحدّ من التزوير.

3- إطاحة البند الاصلاحي المتعلق باعتماد مراكز الاقتراع الكبرى الـmegacenter والذي يحدّ من الضغوط على المقترعين ويسهل لهم الاقتراع بعيداً عن التهديدات والاعتداءات كما جرى في دائرة بعلبك – الهرمل التي شهدت اعتداءات بالضرب على المندوبين الذين "شُحطوا" من الأقلام بعدما شهدت الدائرة إطلاق رصاص على التجمعات الانتخابية في وقت سابق.

كان مجلس الوزراء قد وافق في جلسته بتاريخ 10/3/2022 على مشروع قانون يرمي الى تعديل قانون الانتخابات النيابية على نحو يسمح باعتماد البطاقة الممغنطة وآلية مراكز الاقتراع الكبرى في الانتخابات النيابية المقبلة للعام 2026.

اليوم، في خضم الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى والحكومة في حال تصريف أعمال ومجلس النواب تحوّل بفعل الدستور إلى هيئة ناخبة، على وقع طبول توسّع الحرب جنوباً، وفي ظلّ التشنّج السياسي المترافق مع توزيع القوى في ساحة النجمة وفق مجموعة أقليات، أطلّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي ملوّحاً بالتمديد وبإطاحة قانون 2017. فهو، رداً على سؤال في 7/9/2024 عن تأثير الشغور الرئاسي مع دخوله السنة الثالثة على الانتخابات النيابية المقبلة بعد سنة ونصف السنة، قال: "إن شاء الله لا نصل إلى هذه المشكلة. سنكون أمام مشكلة أخرى إلى تلك، هي قانون الانتخاب المُختلف عليه بين مَن يريده ومَن لا يريده، والحاجة إلى إعادة النظر فيه. القانون النافذ لا يصلح للتطبيق لأننا ملزمون بانتخاب ستة نواب للاغتراب لم يصر بعد إلى تحديدهم وتوزّعهم على الطوائف والقارات".

يبدو أنّ "الثنائي الشيعي" يحنّ إلى زمن "المحادل"  من أجل إعادة فرض قبضته على مجلس النواب عبر امتلاك الأكثرية. لذا يسعى إلى إطاحة قانون 2017

منذ إقفال صناديق الاقتراع العام 2009 إلى العام 2017، تسع سنوات اقتضاها إبصار القانون الجديد النور مستفيداً من اللحظة، أي زخم اتفاق معراب مسيحياً وانطلاقة عهد الجنرال ميشال عون والالتفاف حوله وطنياً. لذا فإنّ دعوة بري إلى إعادة النظر في القانون الانتخابي:

1- في غير وقتها بسبب الظروف القائمة وعدم توفّر المناخ لذلك.

2- تتطلّب حكومة أصيلة ومجلس نواب عمله التشريعي منتظم وليس في وضع الهيئة الناخبة.

3- التذرّع ببند وحيد هو نواب الاغتراب لإطاحة قانون من بنود عدة تطلّب إعداده سنوات طويلة من العمل، مع العلم أنّ قانون الانتخاب في الدول لا يتغيّر عند كل دورة انتخابية.

4- قد يتسبّب الأمر في تطيير الانتخابات لأن فتح باب إعادة النظر في القانون قد يطيحها وسط استحالة الاتفاق على قانون جديد.

باسيل، حليف بري اللدود، سارع في 9/9/2024 الى اعتبار "أنّ الطروحات في قانون الانتخاب ملهاة عن رئاسة الجمهورية"، مشيراً إلى أنّ "أيّ تغيير فيه يجب أن يكون لتحسين التمثيل وليس للانتقاص من هذا التمثيل"، ومشدداً على أنّ "قضية المغتربين يجب ألّا يتم التذرّع بها للتمديد". كذلك اعتبر أنّ النيات من الصوتين التفضيليين ليست سليمة و"هذا يأخذ البلد إلى مشكلة إضافية".

يبدو أنّ "الثنائي الشيعي" يحنّ إلى زمن "المحادل" معوّلاً على الفراغ في الساحة السنية - مع تعليق الرئيس سعد الحريري العمل السياسي، وهو الذي كان يشكّل رافعة لفريق "14 آذار"- من أجل إعادة فرض قبضته على مجلس النواب عبر امتلاك الأكثرية. لذا يسعى الثنائي إلى إطاحة قانون 2017 الذي يشكّل أفضل قانون اعتُمد في لبنان من حيث توفير صحّة التمثيل للمكوّنات عبر تصحيح التمثيل المسيحي.

فـ"الثنائي" لطالما رفع لواء قانون "لبنان دائرة واحدة مع النسبية" مدّعياً أنّه يرفع منسوب المواطنة ويحدّ من الطائفية، فيما هو رأس حربة ضدّ كل القوانين التي تمهّد لذلك من "الزواج المدني" إلى منع "زواج القاصرات" وتحريم "الاغتصاب الزوجي".

"لبنان دائرة واحدة مع النسبية" هو دعوة سافرة إلى بسط حكم العدد. لذا ليت الأمور تطرح بشفافية وبعيداً عن المحاباة. وليت جميع الفرقاء يذهبون مباشرةً إلى السؤال الأساسي الذي دعا رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع إلى بحثه بكلّ مسؤولية وهو "أيّ لبنان نريد؟".