أعرفُ أنَّ اسمَها بيروت.

على اسمِها وعيْنا، ومن تاريخِها قطفنا أمجادًا، فحوَّلْناها عقودَ أحلامٍ وياسمينٍ، لففْنا بها عنقَ غدِنا حينًا، وأهديْناها لجميلاتٍ جميلاتٍ، أحيانًا.

تظاهرْنا في ساحاتِها، لعبْنا في أزقَّتها، تجوَّلنا في أسواقِها القديمة. رُدْنا دُورَها ومسارحَها ومقاهيها، واشترينا كتبَنا المستعملة من مكتباتها.

تهنا – آه كم تهنا - في زحمتِها، وصرفنا أوَّل دولارٍ لدى صيارفتها على تلك الأرصفة المزدحمة.

كبُرنا في وسطها، شبانًا وصبايا، من موعدٍ إلى موعد، ومن لقاءٍ إلى لقاء.

وودَّعنا، هناك، مراهقَتنا... ومريولَ المدرسة. حفظنا، عن ظهرِ قلب، قصائدَ قيلت فيها، وأغنيات. أحببناها، مثلما هي... وعتبْنا عليها حين تحوَّلت ساحةَ حرب وخطوطَ تماس، نحنُ من ظننَّا شبابَنا فرحًا لا ينتهي وطموحًا موشًّى بالورود. وبقينا نحبُّها، ورحنا نلمُّ دموعَها، شهيدًا تلوَ شهيد... إلى أن "قامت من تحت الرَّدم"، فازداد تعلُّقُنا بها.

عُدنا إلى دفاترِ الطُّفولة والشَّباب، نرسِم بها مستقبلًا لعاصمتِنا، سيِّدة المدن المتوسطيَّة، مُرضعةِ الشَّرائع والقوانين للعالم. وعادت، ما همَّ كيف، ولو انفطرت قلوبُنا على كلِّ حصاةٍ حُبلى بتاريخ، وأمٍّ لتواريخ، تحتَ جنازيرِ جرّافة، وتفتَّتت قلوبُنا على مبانٍ بقيت عليها آثارٌ من أقدامِنا وظلالِنا وبصماتنِا، سوِّيت بالأرض لتقومَ مكانها ساحةٌ أو برج.

انتظرنا طويلًا عودةَ شهدائِها إلى قلبها، ولو تمثالًا، ومجيءَ المصوِّر الأرمنيِّ مع كاميرتِه القديمة، ليلتقط لنا صورةً هناك، نضمُّها إلى الألبوم... ولو مستفقدةً أحد الوالدَين، أو كلَيهما، أو أحدَ الأحبَّة والأصدقاء.

عادت، وفرحنا بها عروسًا تتألَّق. "حَتَّى خَطَايَاهَا مَا عَادَتْ خَطَايَاهَا". سبحانَها تستيقظُ ولا تنام. تلهو بالزَّمنِ ولا تتعب. تفتحُ ذراعيْها ما اتَّسعتا. تعانقُ أهلَها وزوّارَها والمهرجانَ والتَّظاهرةَ والمعرِضَ والكتابَ والصُّورةَ والصَّحيفة.

سبحانَها، تتفقَّدُ آثارها وورشةَ بنائها، وتلقي عليها شعرًا وشالًا من نور عينيها الجميلتين، لئلَّا تبردَ، ليلًا.

بيروت. واسمُها بيروت. ويكفي أنَّ اسمَها بيروت. الحبيبةُ، الجميلةُ، القديمةُ، الجديدةُ، التي وُلدَت مذ كاغت أوَّلُ صفحةٍ في التاريخ في حِضنها، والتي لم تولد بعد.

... كدتُ أصفعُه حين سألني ذلك الشَّاب، مرَّةً، وأنا في طريقي إلى وسط العاصمة: أين "سوليدير"؟

أحسستُ أنَّه طعنَني في صدري. ظننتُه وحدَه يسمِّي بيروت بغير اسمها... إلى أن رحت أسمعُهم، فُرادى وزمرًا، يقولون: لنلتقِ اللَّيلةَ في "سوليدير"؟

تبًّا... بالمكسيكيَّة والعربيَّة.

أن يستبدلَ اسم شركة باسم بيروت، على لسان جيلٍ سيكون له ما كان لنا فيها،

إنَّما في الأمر ما يثيرُ علامةَ استفهامٍ كبرى. من ذا الذي عن قصد أو غير قصد،

بنيَّةٍ سليمة أو بخبث، يسوِّق لهذه التَّسمية؟

فالشَّركة شركة ولن تصبحَ مدينة.

وبيروت بيروت، ولن تصبحَ شركة.

ومن له سامعتان... فليسمع.

وماذا بعد؟

أتانا أحدُهم، ذات يوم، وقد وُلدت شهرته في بيروت، فأعطته ما لم يكن لأمِّه التي ولدته أن تعطيَه، وانطلق منها إلى العالم بجناحين متينين، يفاخر بأنَّه مرَّ بها وعاش فيها، وكتب بحبرها وعلى ورقها...

أتانا، في آخر الزَّمان، ليقول إنَّ بيروت لم تعد إلَّا مجرَّد اسمٍ تاريخي.

حين سمعت ما قاله، من دون أن يعودَ يعنيني سائرُ كلامه، مهما بلغ من أهميَّة، وكيفما أوَّلوه، قلت له في نفسي، وقد وضعتُ ديوانًا له كان بين يديَّ، جانبًا: ما هكذا تورد إبل جائزة نوبل يا فلان!!!

عينك على جائزة في الأدب، حقُّك هذا، ونحن معك... ولكن إسعَ إليها بأدب أكثر، ولا ترمِ في البئر التي روَّت عطشك طويلًا، حجرًا نزل على صدورنا في حجم صخرة.

وإذ هبَّ البعض ليصفَك بناكرِ جميل... أسكتتْه بيروت، وقالت له: عيب. بيروت لا تشتُم ولا تحقُد.

غدًا سيعود إليَّ، هيِّئوا له مكانَه ومائدته، والعجلَ المسمَّن.

فما من ضالٍّ إلَّا وجد!

وماذا بعد وبعد؟

هي بيروت نفسُها التي حين "شُلط" قلبها من مكانه، يوم فُجِّر مرفأُها، وقفت على مِنبرِ دمعَتها، ومسرحِ غُصَّتِها وقالت:

أَنَا بَيْرُوتُ...

أَنَا لُغَةُ الثِّمَارِ الَّتِي تَيْنَعُ مَا إِنْ تَتَبَرْعَمُ،

أَنَا لُغَةُ الْعُشْبِ الْمُخْضَوْضِرِ بِالْوَحْلِ وَالْغُبَارِ،

أَنَا صَفْحَةُ الْمَوْجِ الْمُوَشَّى بِالنَّوَارِسِ،

أَنَا الْوِسَادَةُ لِزُرْقَةِ السَّمَاءِ، تُلْقِي عَلَيْهَا رَأْسَهَا، لِتَحْلُمَ،

أَنَا الْكَأْسُ الْمُتْرَعَةُ بِعَرَقِ الْجِبَاهِ الْعَامِلَةِ،

أَنَا لَا أَدْمَعُ إِلَّا دَمَ شَهَادَةٍ،

أَنَا أُعَانِقُ الْخَنَاجِرَ الَّتِي تَطْعَنُ ظَهْرِي، خَوْفَ تَتَوَجَّعُ الطَّعْنَاتُ،

أَنَا بَيْرُوتُ...

قَهْوَةُ صَبَاحِي غَدُ أَبْنَائِي.

هَيِّئُوا الرَّكْوَةَ فَحَسْبُ... لَا أَحْتَاجُ إِلَى سِوَى مِلْعَقَةِ بُنٍّ وَاحِدَةٍ.

واتْرُكُوا لِي رَشْفَةً فِي فِنْجَانٍ.