الأسبوع الماضي كتبت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليسا رايس مقالة طويلة في مجلة فورين بوليسي حذّرت فيها من مخاطر انسحاب الولايات المتحدة من دورها وتقليص حضورها في العالم وعودتها إلى سياسة الانعزال. وقالت رايس في المقال إن انسحاب الولايات المتحدة من دورها في العالم سيزيد الاضطراب وبؤر التوتر، مضيفة أن "العالم بحاجة إلى الولايات المتحدة كما الولايات المتحدة بحاجة إلى العالم."

بين 2016 و2020 حاول الرئيس دونالد ترامب التملص من التزامات الولايات المتحدة الدولية ولا تزال جملته الشهيرة "أنا رئيس الولايات المتحدة ولست رئيس دول العالم المتحدة" في بال الكثيرين من حلفاء الولايات المتحدة ومن أهل "الإستبليشمنت" الذين أحبطوا مسعاه وقتذاك لأنهم يرون في دور الولايات المتحدة حماية للعالم وحماية لها.

منذ ذلك الحين يرى ترامب دور الولايات المتحدة في العالم من منظار "أميركا أولا،" وقوامه تحصين الداخل بسياسات الحماية سياسيا وعسكريا واقتصاديا وتجاريا. وقد اتسمت سياسته الخارجية بالسعي وراء انتصارات تكتية سريعة والمصلحة الضيقة والربح المالي في تعامله مع ملفات كبيرة كالصين وروسيا وأوكرانيا والشرق الأوسط.

يرى ترامب العلاقة الأميركية الصينية من زاوية المواجهة الاقتصادية والخطر الستراتيجي، ويتّهمها بالمنافسة غير العادلة وسرقة الملكية الفكرية. صعّد المواجهة إلى حرب تجارية، بفرض تعريفات جمركية عالية على السلع الصينية، بهدف خفض العجز التجاري الأميركي وإعادة فرص العمل في القطاع الصناعي إلى أميركا. واتخذت إدارته موقفا متشددا بشأن حقوق الإنسان في الصين، لا سيما قضية الويغور المسلمين واستقلالية هونغ كونغ.

أما روسيا فأثارت سياسته تجاهها جدلا عميقا لأنه لم يأخذ بتقدير وكالات الاستخبارات واتّبع حدسه مانحا الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ثقته ومعربا عن إعجابه بطريقة حكمه. وإذا كان قد اضطر إلى فرض عقوبات على روسيا، فإنه أوحى أنه سيغيّر النهج إن فاز.

في شأن أوكرانيا، تأثرت آراؤه بالاعتبارات السياسية الداخلية وتفاعلاته مع روسيا. وقد أدت مكالمته الشهيرة مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي التي ربط فيها إرسال مساعدات أقرّها الكونغرس لأوكرانيا بتحقيق أوكرانيا في أنشطة هانتر بايدن، نجل الرئيس بايدن، إلى تصويت مجلس النواب لعزله.

حقّقت إدارة ترامب تحولا كبيرا تجاه إسرائيل، تميّز بدعم قوي لحكومات اليمين الإسرائيلية بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها والاعتراف بمرتفعات الجولان السورية المحتلة أرضا إسرائيلية. وسعت إدارة ترامب بدفع من كبير مستشاريه، صهره جارد كوشنر، إلى إيجاد حل لمشكلة الشرق الأوسط يتجاهل القضية الفلسطينية، فاقترحت ما سمّي "اتفاقات إبراهيم" وتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، بينها الإمارات والبحرين وقطر وعمان والمغرب والسودان. وقد عزز هذا النهج انحيازاً واضحا لإسرائيل، رضوخا للشارع الأميركي المحافظ وجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل.

أما في شأن إيران، فتماهى موقف ترامب مع موقف إسرائيل المعارض للاتفاق النووي الذي سحب الولايات المتحدة منه بعدما اعتبره غير كاف للحد من طموحات إيران النووية ونفوذها الإقليمي. أعادت إدارته فرض العقوبات على إيران وتكثيفها بهدف الضغط على النظام اقتصاديا ودبلوماسيا. وقد صاغ ترامب هذا النهج كضرورة لمكافحة "العدوان" الإيراني في الشرق الأوسط، وخصوصا دعم أذرع إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن.

الفوز بالرئاسة وحده لا يكفي لتنفيذ البرنامج الرئاسي. فذلك مرتبط أيضا بالفوز بأغلبية في الكونغرس...

موقف ترامب من الاتفاق النووي مع ايران ينسحب على موقفه من الاتفاقات المتعددة الأطراف وصولا إلى حلف شمال الأطلسي. فقد انتقد الدول الأعضاء التي قصّرت عن إنفاق ثلاثة في المئة من ناتجها القومي على الأغراض الدفاعية وهدّدها بأن عليها أن تدفع للولايات المتحدة ثمن حمايتها في حال تعرضها لاعتداء خارجي، وهذا ما يضرب الحلف في الصميم، ولا سيّما مادته الخامسة التي تعتبر الاعتداء على دولة في الحلف اعتداء على الحلف كله.

بسبب كل ذلك يتحسّب الجميع، بما فيهم حلفاء الولايات المتحدة وأصدقاؤها لاحتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض لأنه سيأتي مستعداً لتطبيق رؤيته مع قائمة شبه مكتملة من المرشحين الموالين له لملء المناصب الكبيرة في الإدارة. وفي هذه الحال قد يتكرر ما جرى في عهده السابق، من تراجع النظرة الدولية الإيجابية تجاه الولايات المتحدة. ففي 2022 انحفضت هذه النسبة إلى 37 في المئة من 67 في عهد باراك أوباما، وفق ما أظهره استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث.

ولعل من أسباب هذا الانخفاض أن أكثر من ستين في المئة من المستطلعين في العالم وصفوا أسلوب حكم ترامب بأنه "متعجرف" و "خطير."

ومن العوامل المؤثرة أيضاً في ارتفاع النظرة السلبية الدولية إلى ترامب انسحاب إدارته من اتفاقية باريس للمناخ وحظر دخول مواطني عدد من الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة، بأمر تنفيذي وقّع عليه في اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض.

في المقابل، من الواضح أن نائبة الرئيس كملا هاريس لن تبتعد كثيراً عن السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس بايدن، خصوصاً أنها شاركت فيها مشاركة عميقة شملت زيارات إلى عشرات من الدول وترؤسها الوفد الأميركي إلى مؤتمر الأمن في ميونخ.

في الشأن الصيني ستحافظ هاريس على الطابع التنافسي مع الصين من دون اعتبارها عدوّا. ستعاملها كمنافس خطر، ما دامت لم تخترق الخطوط الحمر في ما خص تايوان والتوسع في بحر الصين الجنوبي.

وفي الشأن الروسي ستتمسك هاريس بسياسة العقوبات الحالية التي ترى أنها أبطأت الاقتصاد الروسي وكشفت مكامن ضعفه.

وستستمر في الدعم القوي لأوكرانيا وفي الالتزام بحلف شمال الأطلسي انطلاقا من اقتناعها بأن الأزمات الحالية تفوق قدرات الدول الفردية وتحتاج إلى تحالفات دولية لاحتوائها والتغلب عليها.

وستحاول هاريس التقدّم في المفاوضات مع إيران مفضلة الحل الدبلوماسي على العمل العسكري للوصول إلى تسوية يقبلها العالم في شأن الملف النووي ودور إيران الإقليمي.

إلا أن هاريس ستسلك طريقها الخاص في شأن إسرائيل وتدميرها المنهجي لغزة وانتقال العمليات العسكرية والأمنية إلى الضفة الغربية. فإلى جانب الالتزام بأمن إسرائيل تصرّ هاريس على إنهاء المأساة الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتحقيق الحل بدولتين. يبقى السؤال كيف؟

الفارق المهمّ بين هاريس وبايدن هو أنها لم تتأثر كبايدن بأجواء الحرب الباردة، وأعطاها مقعدها في لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ فكرة واضحة عن تحديات السياسة الخارجية المستقبلية، بما في ذلك التغيّر المناخي والمخاطر السيبرانية والتهديدات الفضائية والآثار المترتبة على الذكاء الاصطناعي (AI) وحوسبة الكمَ (Quantum Computing).

يبقى أن الفوز بالرئاسة وحده لا يكفي لتنفيذ البرنامج الرئاسي. فذلك مرتبط أيضا بالفوز بأغلبية في الكونغرس، وإلا تحوّل الرئيس إلى ضحية الانقسام أو الخسارة في الكونغرس.