لا يزال توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة يَخضّ الوسطَين السياسي والمالي، بسبب عنصر المفاجأة التي أحدثها أوّلاً، وغموض "يومه التالي" ثانياً، وتسارع الإجراءات رغم العطلة القضائية ثالثاً.
وفي انتظار اكتمال هذه الإجراءات بعد إحالة الموقوف على النائب العام المالي في بيروت ومنه إلى المحقق الأوّل والمحكمة المختصّة، فإنّ حقيقة واحدة يمكن إثباتها حتّى الآن، هي صعوبة لفلفة القضية على طريقة التسويات والتخريجات التي تتقنها المنظومة الحاكمة، وهي منظومة شاركت الموقوف في الجرائم المالية على مدى 30 عاماً من ولايته، وتمادت في استخدامه كغطاء لكلّ ما ارتكبت من موبقات إفلاس الدولة واللبنانيين معاً.
وتكمن هذه الصعوبة في ارتباط الملف المالي المصيري الخطير بالمصالح العالمية والمراجع الرقابية الدولية ودور الإنتربول ودوائر التحقيق الأوروبية والأميركية، بحيث لم يعُد من السهل طيّه تحت شعار "عفا الله عمّا مضى".
ولذلك ستشهد الأيام المقبلة سباقاً حارّاً بين شركاء وحُماة سلامة من جهة، ومجموعة دافعيّ الأثمان من أصحاب الودائع المنهوبة والحقوق المهدورة في الداخل والخارج من جهة أُخرى، وليس هناك ما يؤكّد لمن تكون الغلبة نظراً إلى شراسة المنظومة الحامية وقدرتها على اختراع المخارج والتسويات المريبة حصراً لِما ارتكبت ضمن الإطار اللبناني قبل انتشار فظاعاتها في الخارج، لكنّ فداحة ارتكاباتها تجعلها في مهبّ الريح داخلياً وخارجياً.
والمعروف أن الرأي العام اللبناني فقد ثقته بما يرى ويسمع، وبات يميل مسبقاً إلى اعتبار أي إجراء سياسي أو إداري أو قضائي مجرد عمل إحتوائي أشبه بـ"السرّ المكشوف"
(Le secret de Polichinelle)!
غير أن ما يترك نافذةً مفتوحة على الأمل هو استحالة عزل مسألة رياض سلامة عن حلقات الأزمة الأوسع في الشرق الأوسط وامتداداتها العالمية، فتوقيت "مفاجأة التوقيف" ليس محلّياً بحتاً بل يرتبط بكل الوقائع السياسية والميدانية حول لبنان وفيه.
استحالة عزل مسألة رياض سلامة عن حلقات الأزمة الأوسع في الشرق الأوسط وامتداداتها العالمية
لا يمكن التغاضي عمّا يدور في الميدان والسياسة على خلفية حرب غزة والضفة الغربية وامتدادها إلى جنوب لبنان بما تكوّن من نتائج، خصوصاً بعد تجربة "عملية الأربعين" التي أبعدت الحرب الواسعة إلى أمد غير منظور، وبعد التردد الإيراني المشهود في تنفيذ التهديد بالانتقام لاغتيال إسماعيل هنية في طهران.
على هاتَين الواقعتَين المترافقتَين مع احتدام المفاوضات والمساومات الإيرانية الأميركية يمكن الاستدلال إلى أن لبنان مقبل على مرحلة المحاسبة وفتح الملفّات أو ما يسمّيه زميلنا جو سعادة "قشّ الزفرة"، بالتزامن بين تسوية أزمة الجنوب بانحسار ميداني ل"حزب الله" لقاء تعويض معنوي دعائي حول تسوية الخط الأزرق وتثبيت الحدود والوعد بإعادة الإعمار، وبين ترتيب سياسي في الداخل بسلّة إجراءات تبدأ ببتّ الاستحقاق الرئاسي وما يليه من إعادة تكوين السلطة وحسم التراكمات.
وليس من باب الصدفة أن يتمّ تحريك هذا الاستحقاق عبر الاجتماع السعودي الفرنسي اليوم في الرياض مع الاتجاه إلى إعادة بث الروح في "اللجنة الخماسية" العربية الدولية، إضافةً إلى خطابَين نوعيَّين في عين التينة ومعراب ولو من باب التعارض والاختلاف.
ولم يكن خطاب د جعجع، بتماسكه وعقلانية طرحه ورؤيته الوطنية للحل، آتياً من "سياسة الأُمنيات" أو من فراغ بل من معطيات وقرائن تؤكّد أننا بدأنا نتلمّس مسار خروجنا من النفق، بحيث تكون مرحلة ما بعد انتخاب رئيس الجمهورية لحوار وطني عميق ورصين في قصر بعبدا بهدف إقرار صيغة حياة حديثة للبنان ضمن حدوده ووحدته، ولو استدعى ذلك تصحيحاً شجاعاً لشوائب الدستور ومواكبة التطوّر.
وليس المطروح نسف "اتفاق الطائف" بثلاثيته الخلّاقة عن الوطن النهائي وانتمائه العربي وتوازن مكوّناته، بل الخروج من صنميّة "الإصلاحات" التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ منذ 35 عاماً ولا شيء يؤكّد أنها ستجدها، ومن الدوران في حلقة مفرغة لشلل المؤسسات وفساد الحكّام.
تحت هذه المظلّة الوارفة من الترتيبات السياسية والميدانية المنتظرة من الجنوب إلى بيروت جاء فتح ملفّ رياض سلامة كإجراء غير معزول، فلا يكون ك"النسيب الفقير" في عائلة الفاسدين، هو يدفع الثمن وهم يَسلَمون، بل كحجر أوّل تتهاوى بعده أحجار دومينو الفساد وطبقات الغِيلان على طريق لبنان آخر يبنيه جيله الجديد، بعد إحالة جيله الفاسد إلى التقاعد أو السجون.