في غمرة الكباش السياسي والتلويح بالسلاح الديمغرافي والتهويل بالعدّ، وفي خضمّ الآتون العسكري والخوف من تفلّت لغة الحديد والنار وانفلاش الحرب من دون حدّ، أطلّ رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في محطة أيلول السنوية لإحياء ذكرى شهداء المقاومة اللبنانية، واضعاً الإصبع على الجرح ومطيحاً فزاعة "الإصبع المرفوع" عبر فتحه الباب على مصراعيه للبحث في "أيّ لبنان نريد". 

تناول جعجع اللحظة من دون أن يغرق فيها أو ينجرّ إلى سخافات حملات التخوين و"الصهيوني صهيوني". فبكلّ جرأة جاهر بتضامنه "مع الشعب الفلسطينيّ وقضيّته العادلة"، وبحزنه "لسقوط لبنانيين إخوةٍ لنا وشركاء في الوطن، ولما يحلّ في الجنوب من دمارٍ وخراب، ولما يصيب أهلنا منْ مآسٍ وحروبٍ" مع رفضه زجّ "محور الممانعة لبنان في حربٍ عبثيّةٍ لا أفق لها"، وبتمسّكه بالقرار 1701. كما كرّر إصراره على أنّ "موضوع رئيس الجمهورية يجبْ ألّا يكون موضع مساومةٍ أو تلاعب، بلْ يجبْ أنْ يبقى مستنداً إلى قواعد دستوريةٍ واضحة"، جازماً بأنّ "الطريق إلى قصر بعبدا لا تمرّ في حارة حريك، والدخول إلى قصر بعبدا لا يكون من بوابة عين التينة ووفْق شروطها وحوارها المفْتعلْ. الطريق إلى قصر بعبدا تمرّ فقطْ في ساحة النّجمة ومنْ خلال صندوق الاقتراع".  


قارب جعجع بجرأة وشفافية عمق الأزمة اللبنانية وعقم النظام القائم، بعيداً عن المحاباة والتكاذب وازدواجية الكلام بين المنابر والصالونات وبين الغرف المغلقة وداخل البيوتات...

الأهم أنّ جعجع صوّب هدفه على ما ينبغي فعله في لبنان في اليوم التالي لانتهاء الحرب الدائرة عقب "طوفان الأقصى". فقارب بجرأة وشفافية عمق الأزمة اللبنانية وعقم النظام القائم، بعيداً عن المحاباة والتكاذب وازدواجية الكلام بين المنابر والصالونات وبين الغرف المغلقة وداخل البيوتات. أعلن أنّه "حان الوقت لأنْ نحسم النقاش حول الأمور الخلافية الأساسيّة التي تمنع قيام دولةٍ فعليّةٍ وتبْقي لبنان ساحة فوضى وفسادٍ وعدم استقرار". 

عبّد الطريق أمام "التفتيش عن تركيبة ثانية" في إطار دعوته إلى "إعادة النظر في كلّ شيءٍ في لبنان ما عدا حدوده ووحدته"، فلا محرّمات أو "تابوهات" في النقاش سوى هذين الخطّين الأحمرين: الحدود والوحدة. طرحُ جعجع يرفع مستوى النقاش في البلاد إلى ما بعد بعد "7 أكتوبر" ويقطع الطريق على استنساخ "ربط النزاع" أو "الوحدة الوطنية تحت وطأة السلاح الموجّه إلى الرأس" أو الدعوات إلى الالتفاف حول "حزب الله" لأنّه يواجه إسرائيل، اليوم، وترك المساءلة عن "تفرّده" بفتح الجبهة بالأمس إلى الغد، مؤكداً أنّ "أحداً لنْ يقبل بأنْ يعود الوضع في لبنان إلى ما كان عليه قبْل الحرب، وأنْ تسْتمرّ الدولة في فقدان قرارها وتفكّكها".  

الهاجس والهوس أو ربما الهلع أيضاً تتملّك جميع المكوّنات اللبنانية من مسيحية وسنية ودرزية جراء امتلاك "حزب الله" الممسك بالمكوّن الشيعي السلاح القتالي والسلاح الديمغرافي وتلويحه المستدام بهاتين الورقتين. بعضهم يعتبر أنّه "إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب" لأنّنا عاجزون عن التصدّي لهما، والبعض الآخر اعتاد "الانتظار على ضفّة النهر لمرور جثّة خصمه". أمّا البعض الثالث فيؤمن بأنّ سلاح الكلمة يبقى الأنجع في مواجهة هذين السلاحين حتّى "تأتي الساعة" ويصيبهما الصدأ والعجز. 

واضعاً الإصبع على الجرح ومطيحاً فزاعة "الإصبع المرفوع" عبر فتحه الباب على مصراعيه للبحث في "أيّ لبنان نريد".



بالأمس في 31/5/2024، عاد الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله إلى التلويح بلعبة الأحجام والعدد، حين قال جهاراً في الاحتفال التأبيني تكريماً للعلامة الشيخ علي محمد قاسم كوراني: "على الجميع أن يعرف حجمه ومن يمثّل، فليس صحيحاً أنّ رفض جبهة الإسناد لغزة ترفضه أغلبية الشعب اللبناني. نعتبر أنّنا أكبر قاعدة شعبية في لبنان وأكبر حزب في لبنان ولم نتحدث بهذا المنطق وترى في المقابل من يقول إنّ أغلبية الشعب اللبناني ترفض الإسناد والدعم لغزة". 


أمّا فائض القوة وعنجهية السلاح اللذان تجلّيا في أبهى حللهما عام 2008 في اجتياح بيروت في "7 أيار"، فتتلمس باقي المكونات حضورهما في يومياتها، وهذا ما يوّلد ردّات فعل على الأرض تتفلّت من ضوابط اللاعبين السياسيين الذين يسارعون إلى لفلفتها أو وضعها في إطار "التصرفات الفردية". في هذا السياق، يمكن إدراج حوادث عدة، منها في البيئتين السنية والدرزية: 

* طرد عائلة جنوبية نازحة من بلدة غريفة الشوفية في مطلع آب الماضي بقوة السلاح. 

* رعاية "حزب الله" ولادة حركة "النصر عمل" من رحم "التنظيم الشعبي الناصري" في عقر داره مدينة صيدا، ونواتها كوادر سابقة أو منشقون أو مفصولون من التنظيم، في مقدمهم العضو السابق في اللجنة المركزية للتنظيم والنائب الحالي على لوائح "الحزب" في بعلبك - الهرمل ملحم الحجيري في إطار مساعي "الحزب" لترويض "التنظيم" أو تحجيمه. 

* الإشكال في شبعا خلال تشييع أحد عناصر سرايا المقاومة فادي قاسم كنعان جراء ممارسات "حزب الله" التي استفزت الأهالي، واستدعت صدور بيان شديد اللهجة عقب اجتماع للمشايخ في المنطقة برئاسة مفتي حاصبيا ومرجعيون القاضي الشيخ حسن دلي. 

* امتعاض فاعليات دينية ومدنية في البقاع الغربيّ من مشاركة "حزب الله" في تشييع كوادر "الجماعة الإسلامية" الذين تغتالهم إسرائيل، وتبليغ "الجماعة" بذلك، وهذا ما دفع الأخيرة إلى التمنّي على "الحزب" عدم المشاركة.  

في خطابه في معراب، الأحد، أسقط جعجع من يد نصرالله "فزاعة العدد" عبر تناوله الموضوع مباشرةً بلا لفّ ودوران وبلا خوف. فتوجّه إلى من يقول للمسيحيين "أصبحتمْ قليلي العدد"، بالقول: "قليلو العدد، كثيرو الفعل والإنتاج والخدمة العامّة، كثيرو الإشعاع (...) ولمنْ يقول إنّنا زينة لبنان ورونقه، نقول لا بلْ نحن جوهر وجوده وركنه وعنوانه، بالإضافة إلى كلّ ذلك، فإنّ كلّ الأعداد والنسب التي ترمى يميناً ويساراً في بعض الإعلام هي غير دقيقةٍ، عدا عاملٍ أساسيٍّ وجوهريٍّ هو أنّ الدستور اللبنانيّ غير مبنيٍّ إطلاقاً لا على العدّ ولا على الأرقام، إنّ كلّ من يتكلّم بلغة الأعداد، يقول علناً إنّه يريد تغيير الدستور". 

بالفم الملآن، أعلن جعجع أنّه "إذا كان البعض يريد تعديل الدستور فلا مانع لدينا"، غير أنّه ربط ذلك بخارطة طريق "لوقْف الدوران في هذه الحلقة الجهنّمية، والخروج منها الى حلقة بناء وطنٍ فعليٍ بدولةٍ فعليّة": 

1- تبدأ بـ"انتخاب رئيس للجمهورية أولاً وتبعاً للدستور". 

2- تليه "طاولة حوارٍ وطنيّةٍ فعليّةٍ في قصر بعبدا حيث نطرح كلّ شؤوننا وشجوننا الوطنيّة، يتركّز النّقاش فيها على عنوانٍ أوحد: أيّ لبنان نريد؟". 

3- "نتّفق على أنّنا لنْ نخرج منْ هذا الحوار كما خرجنا من كلّ الحوارات السابقة، فيما البلد يواصل انهياره، ومؤسساته تتآكل، وشعبه يموت ويهاجر". 

أما في مسألة السلاح ففرّغه من حجّة أنّه يحمي الطائفة والوطن، متوجّهاً إلى "حزب الله بالقول: "إنّ سلاحك لا يحمي الطائفة الشيعية، كما أنّ أيّ سلاحٍ لا يحمي طائفةً في لبنان. وإنْ كان هناك من حمايةٍ فهْي حتماً في كنْف الدولة الفعليّة العادلة القادرة"، مؤكّداً أنّ "سلاح حزب الله يمسّ جوهر التعايش اللّبنانيّ، وجوهر مفهوم الدولة".  

جعجع دعا حزب الله إلى "التحلي بشجاعة اتخاذ الموقف الوطنيّ الصحيح لأنّه لا يكفي أن يتحلّى بشجاعة القتال فقط..."، معتبراً أنّه "إذا كان الحزب قد أخطأ في حساباته وفي دخوله الحرب، فالرجوع عن الخطأ فضيلة"، ومحذّراً من أنّه "إذا أصرّ على الاستمرار في الحرب والهروب إلى الأمام "عم قلو ياها من هلق" فإنّ عليه أنْ يتحمّل وحده العواقب والمسؤوليّة أمام الله والوطن والشعب والتاريخ". 

رفع جعجع بكلمته سقف المواجهة القائمة اليوم حول انتخاب رئيس للجمهورية

اللافت هو تأكيد جعجع أنّه مهْما كانتْ نتائج الحرب، فمخطئ من يعتقد أن المجموعة الدوليّة كما العربية، ستفاوض محور الممانعة بخصوص مستقبل لبنان لأنّه الفريق المدجّج بالسلاح، لأنّ أحداً لنْ يقبل أنْ يعود الوضع في لبنان إلى ما كان عليه قبْل الحرب وأنْ تسْتمرّ الدولة في فقدان قرارها وتفكّكها. 

رفع جعجع بكلمته سقف المواجهة القائمة اليوم حول انتخاب رئيس للجمهورية، وتفرّد "الحزب" بقرار الحرب والسلم وامتلاكه السلاح عبر الانتقال من مقاربة ظواهر الأمور إلى بواطنها من خلال الدعوة إلى "البحث عن تركيبةٍ أخرى لدولتنا تخلّصنا من تعقيدات الطائفية السياسية، وتتيح لنا أن نعيش في شراكةٍ حقيقيةٍ بعضنا مع بعض. تركيبةٌ أخرى تمكّننا من العيش بكرامةٍ، بحريةٍ، في وطنٍ ممسكٍ بزمامه، وليس في أرضٍ مستباحةٍ، بدولةٍ كلّ اهتمامها واقع شعبها ومستقبله، وليس بدولة مشلولة معظم الوقت، تأخذ ضرائب من الشرفاء من شعبها، ولا تقدّم لهم بالمقابل شيئًا". 

فهل من يتلقّف الدعوة بعيداً عن الشيطنة المعتادة والأحكام المسبقة؟ هل من يجرؤ على طرح الهواجس والمجاهرة بالطموحات بلا أقنعة؟ هل من يلاقي جعجع في نصف الطريق لبحث الأمور الخلافية الأساسيّة؟ أم ثمة من يتوهّم أنّ لدينا ترف الوقت لإنعاش تركيبة هجينة لم تنجب في الأساس إلّا صراعات دموية وعدم مساواة في المواطنة؟