على الرّغم من الظروف الصعبة التي واجهت اقتصادات العالم كله، استطاعت هذه الاقتصادات الصمود في وجه التصاعد المُستمرّ في التطورات الجيوسياسية والتضخّم وارتفاع أسعار الفائدة. وتراجع الاقتصاد العالمي بنسبة أقلّ من المتوقّع بحسب مُعظم مكاتب الدراسات والمؤسسات المالية العالمية، ليُظهر بذلك قدرة على الصمود ومرونة لم يعهدها في التاريخ ويعجز الاقتصاديون عن فهم الآلية التي اتبعها. وعلى الرّغم من هذه المرونة التي أظهرها الاقتصاد العالمي، لم تختف المخاطر التي يكابدها، ولا أحد يُمكنه توقّع مقدار التداعيات السلبية التي قد تواجهه بحكم التعقيدات الكثيرة التي يجب أخذها في الاعتبار في أيّ محاولة للقيام بمحاكاة لتوقّع النمو الاقتصادي العالمي.

قبل البدء بالحديث عن أهمّ تلك التحدّيات، ينبغي التذكير بأنّ النمو الاقتصادي يحتسب الزيادة أو التراجع السنوي (كنسبة مئوية) للناتج المحلّي الإجمالي. والأهمّ أنّ النمو الاقتصادي (الإيجابي) يُمثّل "الثروة المخلوقة نتيجة النشاط الاقتصادي، والتي تُعتبر من ثروات الأمم".

المعضلة الأساسية التي يواجهها هذا الاقتصاد هو عدم كفاءة المسؤولين أو عدم رغبتهم في القيام بهذه الإصلاحات...

يتفق مُعظم الاقتصاديين على وجود عددٍ من العوامل التي لها تأثير مباشر في الاقتصاد العالمي. ومن أهمّها:

أولًا – التوترات الجيوسياسية، وهي أكثر العوامل خطورة التي تهدّد الاقتصاد العالمي. فالحرب الروسية – الأوكرانية التي دخلت عامها الثالث وحرب غزّة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي، تُشكلّان خطرًا كبيرًا على الأمن الغذائي العالمي وأمن الطاقة. وتبقى المخاوف من تصعيد في هاتين المنطقتين قد يؤدّي إلى تورط دول أخرى، وهو ما يعني:

1 - اضطرابات في أسواق الطاقة والمواد الأساسية والمواد الغذائية، وهذه كلّها حيوية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي. ولا بدّ، ههنا، من التذكير بأنّ منطقة الشرق الأوسط تُساهم بـ 28% من إجمالي الإنتاج العالمي للنفط، وبالتالي، سيكون مصير سعر برميل النفط، في حال وقوع حرب شاملة، شبه مجهول.

2 - ارتفاع كلفة النقل والشحن نتيجة ارتفاع أسعار التأمين وتعديل طرق الشحن. فعلى سبيل المثال، عطّلت هجمات الحوثيين طريق النقل البحري عبر قناة السويس، فأدّى ذلك إلى اعتماد طريق الرجاء الصالح، وبالتالي، ارتفعت الأسعار، خصوصًا في القارة العجوز.

3 - ضرب الاستثمار من باب زيادة المخاطر، ولعلّ أكثر الدول قربًا من مناطق التوترات هي الأكثر تضررًا، على مثال الدول العربية ودول أوروبا الشرقية وروسيا وغيرها.

4 - زيادة التضخّم من خلال ارتفاع الأسعار واستمراره مع استمرار التوترات، وهو ما يستدعي رفع الفائدة، وهذا يعني ضرب الاستثمار والاستهلاك وتآكل النمو الاقتصادي.

ثانيًا – ضغوط مالية متزايدة ناتجة من فوضى أرستها سياسات رفع الفائدة التي تفرض نفسها لدى وجود تضخّم. وإلزامية رفع الفائدة تأتي من إلزامية أن يكون سعر الفائدة الحقيقية إيجابيًا. فالتضخم الذي نتج من جائحة كورونا التي ضربت سلاسل الإمدادات، ومن الحرب الروسية – الأوكرانية، ثم من الحرب الناجمة عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وضع المصارف المركزية أمام معضلة تاريخية: إمّا رفع الفائدة وضرب الاستثمار والاستهلاك، وإمّا ترك الفائدة مُنخفضة والنمو الاقتصادي يتآكل بحكم التضخّم. وإذا كانت التوقّعات تُنبئ بخفض الفائدة في الولايات المُتحدة الأميركية (ربع اقتصاد العالم) هذا العام، فلا ينطبق هذا الأمر على كلّ الاقتصادات. وعليه، ستستمر الضغوط على الاقتصادات النامية وتلك التي في طور النمو والواقعة تحت ثقل ديونها وارتفاع كلفة هذه الديون.

ثالثًا – القيود على حركة التجارة الدولية وزيادة التشرذم: فعلى الرغم من أنّ هدف التجارة الحرّة هو رفع الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، فإنّ التوترات الجيوسياسية والحرب الاقتصادية بين الاقتصادين الأولين في العالم (الولايات المُتحدة الأميركية والصين) أفضت إلى فرض عدد من التدابير التي قيّدت التجارة الدولية، ولعلّ آخرها فرض الولايات المُتحدة الأميركية وكندا والاتحاد الأوروبي رسومًا جمركية بنسبة مئة بالمئة على السيارات الكهربائية الصينية. كذلك أدّى فرض الغرب عقوبات على روسيا وبعض الدول الأخرى إلى انخفاض صادرات الطاقة لهذه الدول، وهو ما أثر سلبًا في اقتصادات الدول الأخرى. وتبقى المخاوف من أن ترتفع وتيرة هذه القيود في المرحلة المُقبلة، خصوصًا من قبل الولايات الُمتحدة الأميركية، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي.

رابعًا – مخاوف من تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي ينمو بوتيرة أقلّ عامًا بعد عام، ومن المُتوقّع أن يكون نمو الاقتصاد الصيني هذا العام هو الأدنى منذ تسعينيات القرن الماضي (باستثناء مرحلة جائحة كورونا). الجدير ذكره أنّ الصين تُساهم بشكلٍ هائل في التجارة العالمية، سواء مع الاقتصادات المُتطورة أو النامية، مع العلم أنّ العديد من السلع في العالم مصدرها الصين، وهو ما يُشير إلى مخاطر جوهرية تشمل الصين ودولًا أخرى. أضف إلى ذلك أنّ الصين أصبحت مقصدًا لمنتجات عدد كبير من الاقتصادات النامية (موادّ أولية بالدرجة الأولى) وهو ما يعني ضربة إلى هذه الاقتصادات إذا تحققت توقعات مراكز الدراسات العالمية والمؤسسات المالية الدولية بنمو أضعف في العام المقبل والعام الذي يليه. وتُشير الدراسات إلى أنّ تراجع النمو الصيني بنسبة واحد بالمئة يؤدّي إلى تراجع النمو الاقتصادي العالمي بنسبة 0.2 بالمئة.

لدى تبيان هذه التحدّيات، لم نظهر بشكل واضح تعظيم المخاطر من عوامل أخرى أو بين التحديات المذكورة آنفاً. فالماكينة الاقتصادية تعمل مثل "الأواني المستطرقة" (Communicating vessels) وبالتالي، فإنّ عملها ليس بالضرورة ميكانيكيًا آنيًا إذ تحتاج إلى بعض الوقت من أجل الوصول إلى التوازن. وهو ما يُعقّد التوقّعات ومعها الإجراءات التي ينبغي للسلطات المعنية أن تتخذها. أضف إلى ذلك الحرب الاقتصادية التي تزيد من مستوى التعقيدات.

أمّا الاقتصاد اللبناني، فهو في حال سبات وبحاجة إلى كثير من الإصلاحات التي تشمل جوهر الماكينة الاقتصادية والمالية العامة والحوكمة والقوانين وتضطلع بدور أساسي في عملية جذب الاستثمارات. ولكن المعضلة الأساسية التي يواجهها هذا الاقتصاد هو عدم كفاءة المسؤولين أو عدم رغبتهم في القيام بهذه الإصلاحات التي، إنْ لم يتمّ القيام بها، ستترك تداعيات سلبية كثيرة في العقود المقبلة.