بعد شهر كامل من ضجيج حرب واسعة لم (والأرجح لن) تقع، أخذ الصراع في الشرق الأوسط حجمه المتوسّط في ساحات ثلاث ساخنة، واثنتين أُخريَين فاترتَين أو أقل سخونة، وسادسة في موقع المراقبة والدعم اللوجستي، وسابعة ساكنة وكأنّ على رأسها الطير.

السابعة هي بالطبع الجبهة السورية، والسادسة إيران الغارقة في حساباتها البراغماتية، بينما الخامسة والرابعة هما الجبهتان العراقية واليمنية بمحدودية دورهما وتأثيرهما.

أمّا الجبهات الثلاث الأولى، الساخنة وغير المشتعلة، فهي غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان مع ملحقاته.

في هذه الساحات الثلاث تدور حروب صغيرة، قياساً على الحرب الكبيرة التي لم تقع (والأرجح لن) تقع، عنوانها في القطاع والضفة متابعات وتصفيات وذيول حرب ال11 شهراً، وفي لبنان عودة إلى ضوابط حرب "الإسناد والمشاغلة" التي خفّ وهجها بوضوح بعد عملية "يوم الأربعين" فجر يوم الأحد الفائت، بما لها وما عليها.

وإذا كان أفق الحربَين الصغيرتَين في غزة والضفة لا يزال غامضاً، سواء على مستوى الميدان أو على مستوى تسوية "اليوم التالي" ومصير مفاوضات الدوحة والقاهرة ومشروع الدولتَين، يمكن القول إن أفق الحرب الصغيرة في جنوب لبنان وملحقاته بات أكثر قابلية للوضوح والتوقّع.

فميدانياً، أعلن طرفا المواجهة إسرائيل و"حزب الله" اكتفاءهما بنتائج "يوم الأربعين"، بغضّ النظر عما تحقق، "مُرضياً" كان أم غير مُرضٍ، بل ذهب أحدهما ("حزب الله") إلى حدّ دعوة الأهالي للعودة الآمنة إلى منازلهم، وذهب الثاني (إسرائيل) إلى طيّ ما حصل وإقفال النقاش حوله. وترافق ذلك مع انخفاض كبير في إطلاقات "الحزب" الناريّة خصوصاً على مستوى الصواريخ، وتحديداً الكاتيوشا، طالما أن الصواريخ البعيدة المدى (الدقيقة والبالستية) لم تُستخدَم بعد، وفقاً لبيان السيّد حسن نصرالله.

ولم يتضح ما إذا كان هذا الانخفاض نتيجة الغارات "الاستباقية" الإسرائيلية على المرابض، أم تنفيذاً لقرار قيادة "الحزب" العودة إلى "قواعد الاشتباك" وما دون.

أفق الحرب الصغيرة في جنوب لبنان وملحقاته بات أكثر قابلية للوضوح والتوقّع...

أمّا على المستوى السياسي وأفق التسوية الجنوبية امتداداً إلى الداخل اللبناني، فأسس "اليوم التالي" باتت هي أيضاً أكثر وضوحاً، ويرفدها التجديد الإجماعي أمس في مجلس الأمن الدولي لانتداب قوات الطوارىء الدولية سنةً جديدة.

صحيح أن هذا التجديد لا يتضمّن تغييراً عن انتداب السنة المنصرمة، لكنّه يُشير في ديباجته إلى أهم ما في القرار لجهة تنفيذه المتوازن وانسحاب كل القوى المسلّحة غير الجيش اللبناني وقوات الطوارىء، والموجودة بين الخط الأزرق ومجرى نهر الليطاني، والمقصود طبعاً "حزب الله".

هذه الإشارة الواضحة تختصر التسوية الممكنة في "اليوم التالي"، وهي تسوية متقابلة تشبه إلى حد بعيد المناطق المنزوعة السلاح بين الأطراف المتحاربة.

ولا شكّ في أن وقع هذه التسوية ليس بسيطاً أو خفيفاً على "حزب الله"، مع علمه المسبق بها وتلميحه إلى تقبّلها حين أعلن عن إخلاء جنوب الليطاني من قواعد الصواريخ البالستية والدقيقة منذ فترة وبأمر من قائده الراحل فؤاد شكر.

وقد باتت التسوية أقرب إلى التنفيذ بعد إعادة مراجعة وتقييم لأحد عشر شهراً من المواجهات بوقائعها ونتائجها، خصوصاً أن إيران تُجري دراسة دقيقة لكل ما جرى مع ردودها السابقة و(اللاحقة؟)، في ضوء مفاوضاتها المستمرة سرّاً وعلناً مع واشنطن وبدون انقطاع.

وإذا كانت إسرائيل مُنهكَة في مواجهاتها المفتوحة على المجهول، فإن إيران مُنهكَة هي أيضاً مع وكلائها وأذرعها، وأي تسوية شاملة تصبح أكثر سهولة بين مُنهكَتَين.

ومقابل عجز إسرائيل عن الحسم العسكري الكامل وعن تصفية الحق الفلسطيني، تحت الضغط العربي والدولي، هناك عجز إيراني عن تحقيق عناوين "الجمهورية الإسلامية" المزمنة في سحق إسرائيل.

حتّى أن شعار الانتصار بالنقاط بات صعباً أو مستحيلاًَ، وقد عبّر عن ذلك نصرالله بصدق وواقعية حين تراجع عن شعار إزالة إسرائيل إلى شعار "منعها من الانتصار".

جيّد أن يلفح أيلول والخريف بنسمات باردة الرأس الإسرائيلي ورؤوس "جبهة المقاومة والممانعة"، فيعبر قطار التسويات بصعوبة... وسلام.