من أوَّل نفَس سمعتًه في صوتها، ذات يوم من آخر تسعينات القرن العشرين، قلت: هذا نفَس جديد في الأغنية. نفَس أغنية عالمية، هوِّيَّتها الإنسان، تشبهه جميعه، في أمله وجراحاته، واقعه وأحلامه، انكساره وإبداعاته، لونه وعرقه، دينه ومنطقته.
تابعت هذا النَّفس إلى آخر نفَس، وما زلت أتابعه وأرصده. وما خاب توقُّعي. كيف لا، وتانيا صالح هي ابنة بيت، نَفَس الكلمة عمَّره، جرأة وإقدامًا، أصالة ومعرفة، تُراثًا وتجددًا، علمًا وذوقًا. كيف لا، وهي أيضًا ابنة أرض تحدُّها القداسة والبطولة، من تلال كفرشوبا إلى قلعة الشّقيف.
من العام 1990، خطَّت طريقها الفنِّيَّة. غنَّت، لحَّنت، كتبت، مثَّلت، أخرجت، حاضرت. شاركت في أعمال كبار، وكبار شاركوها أعمالًا. وقلعة بعلبك ما زالت تحفظ لها "شوية صور"، فانْضَمّت تلك الصُّور إلى الستة العمد، إما عمودًا، وإما ظلال عمود.
لا تحبِّذ أن تُنعت أغنيتها بـ"الأغنية الرسالة"، هي المترسّلة المترهبنة للفنّ الهادف الجادّ الحلو المرتكز على مشروع ورؤية إبداعية، من دون تنازل ولا مساومة. وهي التي تُلحُّ عليك بالسؤال "أيا وحدة بدَّك... ما فيك تضلَّك وحدك، صار لازم تلاقي وحدة توقف حدَّك". وجدت تانيا صالح تلك الواحدة "اللي لازم توقف حدَّا". وقفت مع نفسها... لأنَّها لا تشبه إلَّا نفسها.
أكثر ما لفتني فيها ويلفتني دومًا، تلك الشَّهقة وهي تغنِّي. نفس ظاهر في صوتها في كلِّ ما تؤدِّيه. لا دخل لمهندس الصَّوت هنا، ليلغي هذا النَّفس كما يفعل مع المذيعين والمذيعات. إنها شهقة عفويَّة طبيعية، "طالعة من القلب"، تعبِّر عن إحساسها، وقد اعتمدتها منذ بداياتها ولم تغير، في الستوديو أو على المسرح.
تمضي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وحيدة، في عالم صعب، هو عالم الفن، وقد رسمت مشروعها الخاص من أوَّل الطريق، ولم تحِد عنه، لا بل أوغلت فيه تجريبًا واختلافًا. فما استسلمت، مؤمنةً بأن هذا المشروع البديل يستأهل أن تضحي من أجله، كي تعمِّمَ الجمالَ على الأجيال المقبلة، وهو جمال عرفناه في لبنان عبر قامات فنية كبيرة.
تضع تانيا صالح غالبية نصوص أغانيها، وتلحِّنها، لكنَّها لا تعزف على أيِّ آلة موسيقيَّة. قد يكون صوتها أفضل آلة. ومضمون أيِّ أغنية، سواء ما تؤلفه هي أو غيرها، لا يبدو مجرَّد كلام متَّسق وموزون، بمقدار ما هو نتيجة دراسة معمقة للواقع الذي تجسِّده، ويتطلب وضعه وقتًا وحرفية وخبرة بالتعبير. ومتى تكتمل الفكرة لديها، لتقول إنها تصلح لتكون أغنية جديدة، تَعمل عليها صياغة وترتيبًا، وتُعمل غربالها، لتُبعد عن النص الكلام الغريب أو الصعب، وتختار المقام الموسيقي المناسب، فتبقى قريبة من ذوق الجمهور المثقف. وتساعدها في هذا المسار خبرتها الطويلة في عالم الإعلان، فتبدو الأمور لديها سهلة، ولا تتطلب كثير عناء في التنفيذ.
وإلى الشاعرية التي تميز بعض النصوص المغناة، تعتمد تانيا صالح ظاهرة الكلام اليومي الشعبي، في قالب يصلح للغناء، سواء بالحبكة أم بالقصة، موزونًا مقفًّى. وهي ظاهرة عرفناها مع بديع خيري ويونس القاضي وسيد درويش، ومع بيرم التونسي وزكريا أحمد، ومع أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، ولجأ إليها صلاح جاهين في مصر، وعمر الزعني في لبنان، وحديثًا زياد الرحباني في غالبية الأعمال التي وضعها للكبيرة فيروز ولمغنين آخرين، وشاركه في بعضها الشاعر جوزف حرب. هو شعر لا يشبه شعر المونولوغ أو الأغنية الطريفة، على غرار ما غنى ولحن سامي الصيداوي، من مثل "بإيدو سيجارة وبتمّو سيجارة، ولا بيحمل قداحة، ولا بيستعمل نارة، والقحَّة بْضهر القحَّة، ولما تقلو كيف الصحَّة، بيجاوب بالإشارة وبيسحب بالسيجارة"، أو على غرار أغنية "مجلخ مجلخ" لأبو سليم، أو "برَّات البيت عاملّي عنتر" لفريال كريم.
تعترف تانيا صالح بأنها ربيت على بعض هذه الأغنيات، وعلى أغنيات فرنسية تحمل معاني إنسانية وتعالج حالات نفسية، وعلى أغنيات أميركية، لكنها لم تقلد أي أسلوب منها، فكتبت مثلما تغني، بإحساس عميق، وبصدق يجسِّد واقعًا، أليمًا في غالب الأحيان.
سمي أسلوب تانيا صالح الغنائي، الغناء البديل الذي يمتاز ببصمة تدل إلى المؤدي والملحن والشاعر، من دون أن يذيلوا الأغنية بتوقيعهم.
تعتمد صاحبة أغنية "عالمية"، المحكيَّة اللبنانية في معظم أعمالها، لا بل تتطرف فيها، فلا تقول ساحات، مع ألفين مفتوحتين، بل ساحات بألفين مكسورتين، ولا تقول لُبناني، إنما لِبناني، بما يذكِّر بمشهد للراحل زياد أبو عبسي في مسرحية "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، وهو يجادل الضابط (زياد رحباني)، عن طريقة لفظ بعض الكلمات، لينتهي المطاف بالعبسي إلى السؤال "هل فيروز حلبية"؟.
في أجمل أعمالها، على ما أرى، أسطوانة "وحدة"، رسائل كثيرة. فالأغنية التي حملت الأسطوانة عنوانها، تسأل أي وحدة تريد أيُّها الإنسان اللبناني، أو العربي، لئلا تبقى وحيدًا في عزلة: الوحدة الأوروبية، أم العربية أم الوطنية. وفي أغنية "يا عين موليتين"، تتحدث عن 18 موليا، أي الطوائف الثماني عشر في لبنان، "وكل ملِّة عندا مشروع، وكل ملِّة دكانة"، وفي أغنية "عمر وعلي"، تجرَّأت على ما يحاول أهل الدِّين تجنُّبه، فدعت إلى مصالحة تاريخية بينهما...
تعتمد تانيا صالح بطريقة مقصودة، في أغنياتها، ما يعرف في الأدب العربي، بالتضمين، لمعانٍ وعبارات من المخزون أو الذاكرة أو التراث أو لأسماء وأمكنة. "نسفولي بيتي اخترب"، "يا زين العابدين"، "يا بو الزلف"، "لبنان يا قطعة سما". ؟
وحين بدأت مسيرتها الغنائية، استهلتها بأغنية "يا با يا با له"، التي أدتها كرمى لعمتها، بالاشتراك مع مؤدي الأغنية الأصلي طوني حنا، وبمباركة من ملحنها وناظم كلماتها، الراحل روميو لحود، فأضافت إلى النغمة الأصلية تلوينات، جعلت الأغنية أجمل. ومثلما ارتكزت على ألحان آخرين، تعاملت مع شعراء آخرين. فلجأت أخيرًا إلى نصوص لشعراء كبار، من مثل جبران خليل جبران ومحمود درويش وعبدالله البردوني وبيرم التونسي ويونس الإبن.
سمي أسلوب تانيا صالح الغنائي، الغناء البديل الذي يمتاز ببصمة تدل إلى المؤدي والملحن والشاعر، من دون أن يذيلوا الأغنية بتوقيعهم. وهو أسلوب لم يتبدل جوهره، إذ كانت البداية مع جملة موسيقية بسيطة ومختلفة، ثم كان اتجاه إلى الجاز وبعض الأنماط الأميركية اللاتينية و"الأندر غراوند"، كأني بالموسيقى الشرقية وإيقاعاتها لم تعد تخدم مشروع تانيا الغنائي.
ولا تسعى تانيا إلى شهرة عالمية. تؤمن ببساطة بما تقدمه، من منطلق أنها تعمل ما تحب. انتشر اسمها في كبريات الصحف العالمية، ومنها "واشنطن بوست"، كاعتراف بأهمية مشروعها، يعوِّضها شهرة مفترضة محليًّا، يقطفها من كان يسمِّيهم الراحل جورج جرداق "قبابيط المطاعم"، وأسميهم شخصيًّا "مغنِّي الأوتوتيون".
تعاملت تانيا صالح مع زياد رحباني كمؤدية في الكورس، وفي مسرحيتي "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، و"لولا فسحة الأمل". هو بالنسبة إليها ظاهرة لا تتكرر، إذ إن كثرًا نسخوه، وكثرًا مسخوه، وهي من مدرسته وخطه، من دون مسخ أو نسخ.
تانيا صالح التي لا تشبه إلَّا نفسها... ماضية في مشروع صعب، لكنَّه يستأهل كلَّ تضحية.