بعد مرور 317 يوماً على "حرب المشاغلة والمساندة" من جنوب لبنان يجدر التوقف، في ضوء نتائجها، عند عناصر القوة وعوامل الضعف، بهدف استشراف المرحلة المقبلة وتلمّس المصلحة اللبنانية العليا سلماً أو حرباً.

فمنذ نشأة إسرائيل على حدود لبنان الجنوبية قبل 76 عاماً، بدأ الجدل حول مقولة "قوة لبنان في ضعفه"، وهو مستمر إلى الآن، برغم 4 تجارب للقوة العسكرية، إثنتان منها غير لبنانيّتَين (المنظمات الفلسطينية والجيش السوري)، واثنتان لبنانيّتان (الجيش الشرعي اللبناني و"المقاومة الإسلامية لحزب الله" وقبلها "المقاومة الوطنية").

وإذا كانت التجربتان الفلسطينية والسورية باتتا من الماضي، وواضحتَين بنتائجهما السلبية على لبنان، فمن المنطقي مناقشة التجربتين اللبنانيّتَين بحكم استمرارهما وتفاعل دورَيهما، لمعرفة أين تكمن العناصر الإيجابية في كلٍّ منهما، وفي حقيقة التكامل والتنسيق بينهما تحت ثلاثية البيانات الوزارية وصياغاتها اللاحقة "جيش وشعب ومقاومة".

وفي مقاربة هذا النقاش لا بدّ من سحب نظرية "قوة لبنان في ضعفه" من إطار التنمّر التقليدي، وتفسير المقصود من مفارقة الضعف الذي يصنع قوة.

في الحقيقة، لم يخطر في بال أصحاب هذه المقولة، أو الذين نُسب إليهم قولها، أن يكون لبنان مجرّداً من قوة جيشه وقدرته العسكرية على التصدّي لأي اعتداء، وقد كانت له مواجهات مشهودة منذ تكوينه، من "موقعة المالكية" في الجليل الأعلى ضدّ إسرائيل في 15 أيار سنة 1948، وصولاً إلى "موقعة العديسة" الجنوبية المشرّفة في 3 آب 2010، وما بينهما وبعدهما.

لكنّ جوهر قوة الجيش اللبناني يكمن في شرعيته على المستوى الأممي والدولي إضافةً إلى شرعيته الوطنية، وهذا ما يلجم إسرائيل، مرة بعد أخرى، عن التمادي في الاعتداء كما تفعل مع "حزب الله" الذي لا يحظى بمثل هذه الشرعية القانونية الداخلية والدولية.

جوهر قوة الجيش اللبناني يكمن في شرعيته على المستوى الأممي والدولي إضافةً إلى شرعيته الوطنية، وهذا ما يلجم إسرائيل

ومن هذا الاقتران بين القوة العسكرية اللبنانية والشرعية القانونية الوطنية والعالمية يتحوّل "الضعف" إلى قوة، فلا يُستهان بالقوة الدبلوماسية في المواجهات والحروب، وفي تحصيل الحقوق، والدليل أن جميع الأطراف المنخرطة في الحرب الراهنة، بما فيها إسرائيل وإيران و"حركة حماس" و"الحزب"، تلجأ إلى الخيار الدبلوماسي والمفاوضات لمعالجة ما تعجز القوة العسكرية عن تحقيقه، وقد كانت تجربة الترسيم البحري منذ سنتَين خير مثال على ما تستطيع الدبلوماسية فعله.

أمّا القوة العسكرية الصافية والوازنة التي يجسّدها "حزب الله" فهي مَشوبة بنقص الشرعية القانونية الدولية، ولو كانت المواثيق الدولية تكرّس حق الشعوب في مقاومة الاحتلال. وهنا يكمن الفرق البنيوي في الدستور بين الجيش اللبناني وأي مقاومة شعبية منظّمة من خارج الشرعية الدستورية.

كما أن هناك فرقاً جوهرياً آخر لا يقل أهمية عن الأول، وهو الطبيعة التكوينية لكل من الجيش و"الحزب"، فالأول مكوَّن من كل المناطق والطوائف والمذاهب على امتداد الجغرافيا والديمغرافيا اللبنانيّتَين، بينما الثاني مكوَّن من غالبية مذهبية واحدة ومن مناطق محدودة.

ولذلك تبدو ثلاثية "جيش وشعب ومقاومة" منسجمة وسليمة في الشكل، متناقضة ومتضاربة في المضمون، خصوصاً لجهة الشمولية الوطنية التي يعبّر عنها الجيش.

وعلى مدى عشرة أشهر ونصف الشهر أثبتت وقائع المواجهة أن القوة العسكرية الصافية غير كافية للحماية، وأن دولة بحجم لبنان لا يصح أن تتحوّل إلى عملاق عسكري تقع عليه، دون سواه، مسؤولية التحرير لأرضه وأرض غيره وخوض الحروب الكبرى، بينما لعمالقة الإقليم، بالعسكر والاقتصاد والحجم، مصالح مؤتلِفة وحسابات مختلِفة تجعلهم متهيّبين من خوض الحروب.

كما أثبتت الوقائع نفسها تعثّر شعار "نحمي ونبني"، فبعض ما تمّ بناؤه تهدّم، ولم تتمّ حماية مَن وما فوق الأرض، ولا تكفي محاولات الحماية تحتها. فأنفاق غزة لم تحُل دون تدمير مدنها وإحراق بيّاراتها وحقولها ومعالم الحياة فيها.

وفي خلاصة النقاش أن الدفاع الحقيقي عن لبنان يجب أن يكون نتيجة عقد زواج ثابت وتكامل مُحكَم بين القوة العسكرية والشرعيّتَين القانونيّتَين الوطنية والدولية. وهذا الزواج الوطني الشرعي الدستوري لا يجسّده سوى الجيش اللبناني.

وفي الواقع الجنوبي الراهن، لا مناص من التكامل بين الجيش وقوات الطوارىء الدولية كشرعيّتَين وطنية وأممية لحماية لبنان، وترسيم إجراءات التسوية الموضوعية على طرفَي الحدود، وصولاً إلى الحلّ المستدام.

وهذا هو المحتوى الحقيقي لكلّ المبادرات والاقتراحات التي يحملها الوسطاء الدوليون، تفادياً للحرب الواسعة وتأميناً لسلامة الجنوب وسلامه، عبر تنفيذ متوازن ومتوازٍ للقرار 1701 بكل مضامينه.