وعي الشعوب وأنماط عيشها وممارساتها ليست وليدة لحظة أو مصادفة بل نتاج عمل تراكمي عبر السنين وتقاطع عوامل عدة. هذه هي حال شعوب الشرق الأوسط مع مفاهيم كالمواطنية والديمقراطية والحياة الحزبية التي لا تزال مساراتها متعرّجة لأنّها في مراحل غير متقدّمة.
لبنان، وإن تمتّع بهامش أوسع من محيطه في هذا الصدّد، لم يبلغ بعد "سنّ الرشد" في هذه المفاهيم. في ما يتعلق بموضوع هذا المقال، فإنّ الحياة الحزبية مثقلة إجمالاً بموروثات يتناقلها الأفراد، منها "تأليه الشخص" وشيطنته عند الاختلاف، وعدم تقبّل رأي الأكثرية الحزبية متى كان مخالفاً، وعدم احترام ما تفرزه صناديق الاقتراع. لذا يشهد لبنان تجارب حزبية قلّة منها تسمو لبلوغ حياة حزبية سليمة وعريقة، وأكثرية تفصّل "الحزب" على حجم الزعيم أو العائلة أو تركيبة نفعية، أو تمارس إسقاطات دينية فتضبط أيّ ديمقراطية حزبية بـ"تكليف شرعي" يعلو ولا يُعلى عليه.
الأمر مرتبط بالوعي لجوهر الحياة الحزبية بحيث التزام الفرد بالمناقبية الحزبية وبرأي الأكثرية وبنتائج صناديق الاقتراع ليس من باب الديكتاتورية بل من باب الاستفادة من توحيد القوى. كثيرون يُحمَّلون مسؤولية عدم النضج الحزبي إلى "الطائفية" التي اعتادوا رمي كلّ الموبقات على كاهلها، إلّا أنّ الأمر غير صحيح وهو مرتبط بتكوين ثقافة الفرد أولاً. خير دليل أنّ الشرذمة وعدم الديمقراطية أو عدم تقبّل نتائج اللعبة الديمقراطية قد يعصفان حتّى في أحزاب علمانية كـ"الحزب الشيوعي" والحزب "السوري القومي الاجتماعي" الذي كان دوماً منقسِماً الى أجنحة كثيراً ما تناحرت دموياً.
ما يشهده "التيار الوطني الحر" من إقالات واستقالات يؤكّد أنّه ينتمي إلى الأكثرية التي تفصّل "الحزب" على حجم الزعيم أو العائلة أو تركيبة نفعية. فارتكاز رئيس "التيار" النائب جبران باسيل وفريقه في قرارهما فصل النائب آلان عون على أنّه لم يلتزم القرار الحزبي بالتصويت للمرشح الرئاسي جهاد أزعور، أمر بديهي. كما رفضهما طرح النائب إبراهيم كنعان مبادرة تتعلّق بالخلافات الداخلية لـ"التيار" على الهواء أمر مفهوم. كذلك تبرير آلان عون والنائب المستقيل سيمون أبي رميا والنائب المفصول قبلهما إلياس بو صعب وكذلك كنعان أنّ باسيل يتفرّد بالقرار ولا يحترم التعددية الحزبية ويقصي معارضيه بطرائق غير ديمقراطية أمر محقّ لولا أنّهم سكتوا عن هذه الممارسات طوال سنوات، أو أقلّه، لم يتصدّوا لها بشكل جدّي.
ما يشهده "التيار الوطني الحر" من إقالات واستقالات يؤكّد أنّه ينتمي إلى الأكثرية التي تفصّل "الحزب" على حجم الزعيم أو العائلة أو تركيبة نفعية.
في البدء، كانت الظاهرة العونية عام 1988 وقد تمثّلت بتلاقي المتضرّرين من نجاح "القوات اللبنانية" أو من أخطائها، كوارثة لممارسات أحزاب الجبهة اللبنانية أو المعادين لخطّها، فضمّت:
* من بقي مقيماً في المنطقة الشرقية من مناصري أحزاب "اليسار" (وفق المفهوم اللبناني) كـ "القومي السوري" و"الشيوعي".
* من أراد الانتقام من صعود "القوات" على حسابه أو من صراعات سابقة - حتّى لنشأة "القوات" أحياناً - كـ"الكتلاويين" الحاقدين على "الكتائب" أو "الأحرار" ممّن لم يتخطّوا حادثة الصفرا، أو "الكتائب" ممّن يدورون في فلك الرئيس أمين الجميل أو مجموعات مقرّبة من إيلي حبيقة أو حتى فؤاد أبو ناضر وغيرهم ممن كانوا سابقاً في "القوات" أو حتى ممّن رفضوا مأسسة "المقاومة اللبنانية" لأنّها حدّت من سطوتهم كزعماء أحياء أو رؤساء مجموعات أو حركات حزبية محدودة بأجنحة عسكرية.
* المأخوذين بـ"البدلة العسكرية" الشرعية والرافضين بديهياً وجود ميليشيات.
* المواطنين الذين سئموا من الحرب التي طال أمدها وتوسّموا خيراً بعون على رجاء أن يعيد للدولة هيبتها وينهي الحرب.
* شخصيات باحثة عن دور سياسي اعتبرت أنّه قد يكون أكبر مع عون ممّا هو مع "القوات".
* شريحةً جذبها خطاب عون و"الكاريزما" التي يتمتع بها.
نجح باسيل بحنكته في تسجيل "الضربة القاضية" وفق توقيته ودفع آلان عون ومعه أبي رميا وكنعان ثمن تردّدهم وحساباتهم المخطئة.
الظاهرة العونية انتقلت، مع عودة بعضهم تدريجياً إلى موقعه السياسي الأساسي، إلى حالة عونية تمحورت حول شخص الجنرال عون ومسيرته، ولاحقاً تأطّرت حزبياً في "التيار الوطني الحر". عملياً كرّت سبحة الخروج من "التيار" منذ العام 2003. لكنّ الخارجين يدرجون في خانتين:
أ – الذين خرجوا لأسباب فكرية وعقائدية وجراء خلاف على المنحى السياسي لعون، وقد شكّلت "ورقة مار مخايل" محطّة مفصلية في هذا الصدد، وفي مقدمهم عبدالله خوري أحد صانعي الظاهرة العونية ومن أبرز وجوه مكتب التنسيق الوطني في العام 1988 وأحد مؤسّسي "التيار"، خرج عام 2003 بعدما "اكتشف علاقة عون مع نظام الأسد والتي بدأها السيد فايز قزّي بذهاب وإياب مكوكيّين على الشام - باريس، وباريس -الشام، أثمرت في ما بعد عن عودة عون" وبعدما "تلمّس نهماً هائلاً لدى عون مع أقاربه على تصفية ماضي التيار الوطني الحر، وإيجاد حالة جديدة يستتبّ فيها الوضع للإطار العائلي" بحسب قوله. خوري الذي يعرف عنه بأنّه "زاهد في سبيل اقتناعاته" وفي طليعتها لبنان والدور المسيحي الفاعل فيه، لم يعد رغم كل المغريات.
كذلك خرج رئيس "حركة التغيير" إيلي محفوض جراء تحالف "التيار" مع "حزب الله" وعقب لقاء عاصف مع عون. كما خرج القياديان باسم خضر اغا ود. كمال اليازجي والياس الزغبي المسؤول الإعلامي الذي طوّع الكلمة في خدمة الجنرال وعدد من الكوادر.
ب- الذين بقوا رغم "ورقة مار مخايل" ثم غادروا بعدها "التيار" أو فصلوا لاحقاً. لم يكن السبب خلافاً على الخط الذي انتهجه بل على إدارة "التيار" أو على المناصب أو على التوريث عبر إيصال الجنرال عون لصهره النائب جبران باسيل، ومن أبرز الوجوه: اللواء عصام أبو جمره، نعيم عون، زياد عبس، رمزي كنج، طوني نصرالله، ميشال دوشدرفيان، الراحل طوني الخوري حرب، والنواب: ماريو عون، زياد أسود، حكمت ديب، نبيل نقولا، شامل روكز، الياس بو صعب (رغم أنّه غير منتسب، ولكنه أساسي في "التكتل" ويمثّل نموذجاً عن "العوميين" نسبة إلى القوميين العونيين)، الآن عون وسيمون أبي رميا وإبراهيم كنعان الذي أضحى في الخارج بانتظار الإعلان الرسمي.
بعيداً عن التخريجة الانتخابية لترؤس جبران باسيل "التيار" فإنّ الانطباع بأنّ الجنرال عون لم ينتظر "التوريث السياسي" لصهره، بل منحه "وكالة غير قابلة للعزل" بالحالة العونية. الانطباع الآخر أنّ باسيل أمسك زمام الأمور في "التيار" بحنكة لافتة. اختياره توقيت فصل النائب آلان عون اليوم رغم صدوره قبل أشهر مرتبط بحسابات دقيقة:
* تسارع الأحداث في ظلّ الحرب الدائرة يجعل عملية "التشحيل" - كما يحلو لكثير من العونيين تسميتها - تمرّ بأقلّ ضرر.
* أهمية القيام بـ"التشحيل" في حضرة الجنرال المؤسس ميشال عون وتحت بركته، وهذا ما يوفّر على باسيل خضّات لاحقة.
* معرفة باسيل أن لا قدرة لدى الخارجين من "التيار" على توحيد صفوفهم، اليوم، بعدما فشل من سبقهم بالقيام بهذه الخطوة بسبب كثرة الرؤوس والمشاريع.
* إدراك باسيل مدى حاجة "حزب الله" مجدّداً الى الغطاء المسيحي الذي يوفّره "التيار" في ظلّ تفرّده بفتح جبهة الجنوب في 8 تشرين الأول 2023 ولو أنّه تقلّص من "تسونامي" عام 2005 إلى المرتبة الثانية شعبياً بعد "القوات اللبنانية" التي تقدّمت عليه بعشرات آلاف الأصوات في الانتخابات النيابية الأخيرة.
*لا انتخابات نيابية في الأفق وتأثير كلّ الخارجين محدود نسبياً، علماً أن حجم كتلته مرتبط أولاً بتفاهمه مع "حزب الله" الذي لا يمكن إلّا أن يفضّله كـ"تيار" عليهم كأفراد.
منذ أول حكومة شارك فيها "التيار" عام 2008 تلقى آلان عون "طعنة" إذ كان الاتفاق على أنّه في حال نيل "التيار" حقيبة الاتصالات تعود إليه كونه مهندس اتصالات، أمّا إذا نال حقيبة "الأشغال" فتكون من نصيب باسيل كونه مهندساً مدنياً. رغم ذلك، تمّ الانقضاض على هذا الاتفاق لمصلحة باسيل، وحُرم عون من أيّ وزارة. بعد 16 عاماً نجح باسيل بحنكته في تسجيل "الضربة القاضية" وفق توقيته ودفع آلان عون ومعه أبي رميا وكنعان ثمن تردّدهم وحساباتهم المخطئة.
بعدما مرّ "التشحيل"، ها هو باسيل يسند ظهره إلى "تيار" صلب رغم تقلّص حجمه وخسارته قافلة من الوجوه المؤسِسَة، وها هم ينضمّون إلى نادي العونيين السابقين، وفي أفضل الأحوال قد يكون مصيرهم بعد أي انتخابات نيابية مقبلة، كزياد أسود، أي "قنابل صوتية" تويترية.