يقف لبنان على مسافة أسابيع من قرار مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) بضمّه أو عدم ضمّه إلى اللائحة الرمادية. وكثُر الحديث عن مساعٍ يقوم بها حاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري لإقناع المجموعة بإعطاء فرصة لتصحيح الوضع القائم في ما يخصّ مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إلّا أنّ هذه المساعي لم تُعطِ ثمارها حتّى الساعة. وتُشير مصادر مُقرّبة من منصوري إلى أنّه ينوي السفر إلى واشنطن في أوائل أيلول المقبل بهدف إقناع السلطات الأميركية (ذات التأثير القوي في المجموعة) وصندوق النقد الدولي بإعطاء لبنان مزيدًا من الوقت. الحجّة الوحيدة التي يحملها حاكم المركزي بالإنابة في جيبه هي أنّ "إدراج لبنان على اللائحة الرمادية سيزيد من اقتصاد الكاش، وبالتالي زيادة إمكانية تبييض الأموال" معطوفاً عليها بعض الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان، والتي تُظهر حسن نيّة المصرف المركزي والقطاع المالي.
إلّا أنّ الغوص في الملف يُظهر أنّ إقناع الجهات الدولية بإعطاء مزيد من الوقت، لن يكون سهلاً، وبالتالي فإنّ إدراج لبنان على اللائحة الرمادية أصبح أمرًا شبه مؤكد.
حيثيات الملف
تنطلق انتقادات مجموعة العمل المالي الدولية من حجم اقتصاد الكاش، الذي تخطّى الخمسة وخمسين بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي (17 مليار دولار أميركي) بحسب أرقام البنك الدولي. وبما أنّ وجود الكاش يعني وجود شبهات إذا لم يكن هناك من إثبات لمصدر الأموال، وبما أنّ السلطات اللبنانية عجزت وتعجز عن السيطرة على الكاش في السوق، خصوصًا الكاش بالدولار الأميركي، أفادت المجموعة بأنّ لبنان أصبح مصدر خطر على النظام المالي العالمي بحكم أنّ التجار والأفراد يضعون الأموال الطازجة في المصارف اللبنانية ويُرسلونها إلى المصارف في الدول الأخرى بهدف الاستيراد أو بهدف إخراج الأموال من لبنان (خوفًا من النظام المصرفي اللبناني). وتُشير المعلومات إلى أنّ ملف لبنان كان محصورًا بمجموعة العمل المالي التابعة إلى دول البحر الأبيض المتوسط (MENA)، والتي هي عضو في مجموعة العمل المالي الدولية، إلّا أنّ السلطات الأميركية وصندوق النقد الدولي طلبا نقل هذا الملف إلى مجموعة العمل المالي الدولية لمناقشته وأخذ القرار المناسب، على الرّغم من أنّ حجم الاقتصاد اللبناني لا يوازي شيئًا أمام حجم العمليات الحاصلة في المنطقة والتي تتخطّى التريليونات من الدولارات.
نقاط ضعف
تقنيًا، ورد في تقرير مجموعة العمل المالي الدولية، أن لدى السلطات المُختصّة فهمًا جيدًا لمعظم مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأنّ هناك فهمًا جيّدًا (بعضها متطور) لدى معظم الجهات العامة لمخاطر عمليات غسل الأموال. كذلك بالنسبة إلى القطاع الخاص الذي لديه فهم جيد لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وخاصة المصارف التي تتمتّع بمستوى متطور من الفهم. ويُضيف التقرير أنّه تمّ تحديد بعض الإشكاليات في منطق فهم لبنان للمخاطر المرتبطة بقطاع تجار المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، الذي يتميز بخصائصه كملاذ آمن للادخار والاستثمار أثناء الأزمات، إذ يرتكز تقييم الدولة لهذه المخاطر في الدرجة الأولى على الأهمية النسبية لهذا القطاع، وهذا ما يستلزم تحديث تقييم المخاطر المرتبطة بهذا القطاع ليكون أكثر شمولًا.
وجاء في التقرير أنّ نتائج التقييم الوطني للمخاطر الناتجة من أكثر الجرائم خطورة، وأكثر القطاعات المالية وغير المالية عرضةً لخطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأن مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب الناشئة عن القطاع المالي غير المنظَّم والمنظِّم، هي أكبر من تلك الناشئة عن القطاع المالي. كذلك أظهر التقييم ضعفاً في تقييم مخاطر غسل الأموال الناتج من الفساد الحكومي الرفيع المستوى في البلاد.
بيّن تقرير المجموعة الدولية أنّ هناك مخاطر غسل أموال وتمويل الإرهاب من القطاع غير المالي
الذهب والفساد في القطاع العام
عمليًا، بيّن تقرير المجموعة الدولية أنّ هناك مخاطر غسل أموال وتمويل الإرهاب من القطاع غير المالي. وتشمل أكثر القطاعات خطرًا:
- شراء الذهب وبيعه، إذ يُشكّل الذهب ملاذًا آمنًا في ظل الأزمات. وبالتالي، فإنّ عمليات شرائه في لبنان ارتفعت بنسبٍ كبيرة جدًا حتى أنّ بعض التجار الكبار أصبحوا غير قادرين على تلبية الطلب المُتزايد على الأونصات (مع كفالة سويسرية).
- الفساد في القطاع العام يحتلّ المرتبة الأولى في الاهتمامات الدولية لأنّ عمليات غسل الأموال الناتجة منه لا تزال مُستمرة، والأموال تذهب بمعظمها إلى المصارف العالمية.
- شراء العقارات وبيعها، إذ هناك عمليات عقارية بملايين الدولارات (كلّ واحدة) تتمّ بالكاش من دون سؤال عن مصدر الأموال أو خضوع هذا المصدر للرقابة.
- المهن الحرة، وعلى رأسها التجارة التي تُصنّف بابًا رئيسيًا لعمليات تبييض الأموال في لبنان في العقود الأخيرة. إذ تخطت في الفترة الأخيرة المستويات التاريخية السابقة، خصوصًا أنّ الرقابة الرسمية على حركة الأموال ليست متوافرة سوى لدى الأجهزة الأمنية التي لا تستطيع اللجوء إليها إلّا بموجب قرار سياسي.
هذه اللائحة هي على سبيل الذكر لا الحصر. ويُمكن معرفة القطاعات التي عليها شبهات دولية من خلال المادة الأولى من القانون 44/2015، والتي تُحدّد النشاطات المرتبطة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب.
إجراءات قد تعفي من اللائحة الرمادية
يكشف التحليل أنّ هناك إجراءات قد يطلبها المُجتمع الدولي من لبنان، وقد يُمكن من خلالها إعطاء لبنان مزيدًا من الوقت عبر إعفاء مؤقت من اللائحة الرمادية.
أتى في تقرير مجموعة العمل المالي الدولية أنّ "وكالات إنفاذ القانون، ممثلة بمديرية المخابرات العامة في الجيش اللبناني وشعبة المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والمديرية العامة لأمن الدولة، تتابع أنشطة تمويل الإرهاب المختلفة، بما في ذلك جمع الأموال (من مصدر مشروع أو غير مشروع). وحركتها ونقلها سواء من خلال القطاع الرسمي أو غير الرسمي، أو من خلال النقل المادي عبر الحدود".
وعليه، ترى المجموعة أنّ المعلومات التي تشمل مُبيّضي الأموال متوافرة لدى الأجهزة الاستخباراتية اللبنانية. من هذا المُنطلق، قد يُطلب من لبنان ملاحقة المخالفين أو البدء بملاحقتهم (لإظهار حسن النية). وهذا القول نابع مما ورد في تقرير المجموعة: "يسعى لبنان إلى تقديم المساعدة القانونية المتبادلة وطلبها في مجال غسل الأموال والجرائم الأصلية ومجال تمويل الإرهاب. لا تتوافق طلبات المساعدة القانونية المتبادلة مع ملف المخاطر الخاص بالبلد. علاوة على ذلك، هناك تأخير في إرسال طلبات المساعدة القانونية المتبادلة، ونقص في تقديم طلبات استرداد الأصول المسروقة، وغياب الجهود الإضافية للتغلب على معوقات تنفيذ هذه الطلبات. وتتعاون الدولة عبر أجهزتها ومؤسساتها المختصة تعاوناً غير رسمي مع نظيراتها في الدول الأخرى في مجال مكافحة تمويل الإرهاب، بطريقة متفاوتة. ومع ذلك، فإنّ تعاونها في مكافحة غسل الأموال والجرائم الأصلية، مثل الاتجار بالمخدرات، يعتبر غير متسق مع ملف المخاطر". وهذا يعني أنّ هناك تهمّة واضحة للسلطات اللبنانية بالتقاعس عن القيام بما تُمليه عليها المُعاهدات الدولية. وهذه النقطة الأخيرة قد تكون السبب الأساسي الكامن وراء وضع لبنان على اللائحة الرمادية، اللهم إلّا إذا لاحقت الحكومة اللبنانية المُخالفين وأظهرت حسن نيتها. لكن في بلد الطوائف والطائفية، فمثل هذا الأمر مُستبعد.