في الأول من تموز الفائت، أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكمًا في قضية رفعها إليها الرئيس السابق دونالد ترامب سمّيت "ترامب ضد الولايات المتحدة" طالبها فيها بإبطال الدعاوى التي رفعتها عليه وزارة العدل وولايتا جورجيا ونيو يورك بحجة تمتعه بحصانة رئاسية يمنحه إياها الدستور. اعتبر ترامب هذا الحكم انتصارا له ضد "الاضطهاد السياسي" الذي "مورس" عليه، فيما رآه المدّعون سابقة تمنح الرئيس حصانة مطلقة وتجعله "فوق القانون."

أصدرت المحكمة العليا هذا القرار بأغلبية ستة لثلاثة، منحت فيه الرئيس حصانة كاملة عن كل "الأفعال الرسمية" التي يقوم بها، وتركته بدون حصانة عن الأفعال الجرمية التي يقوم بها "بصفة شخصية." وكتب رئيس المحكمة القاضي جون روبرتس الذي صاغ قرار الأغلبية أن هذه الحصانة "ضرورية لكي يؤدي الرئيس مهامه بفاعلية دون خوف من التحرش القانوني المستمر." أضاف روبرتس أنًّ "الرؤساء الحاليين والسابقين يحتاجون حصانة كاملة عن الأعمال التي يقومون بها ضمن مسؤولياتهم الأساسية" و"كذلك عن الأفعال التي تكون على أطراف تلك المسؤوليات." لكنّ القاضيات الثلاث المعارضات اللواتي عبرت عن رأيهن القاضية سونيا سوتومايور، أثرن مخاوف من احتمال إساءة استخدام السلطة وتآكل المساءلة عن سوء السلوك الرئاسي. حتى أن القاضية المحافظة إيمي كوني بارتّ، المؤيدة للحصانة الرئاسية وتعزيزها، وجدت في تغييب المساءلة "قرارا تجاوز المقبول."

تكمن أهمية القرار ليس فقط في مضمونه، بل في توقيته إذ تأخرت المحكمة في إعلان قبولها النظر فيه وأصدرته قبل أربعة أشهر من انتخابات الرئاسة. وظهر أول تأثيراته في إبطال القاضية الاتحادية في قلوريدا آيليين كانون – التي عيّنها ترامب – الدعوى التي رفعها جاك سميث المحقق الخاص في قضية التعامل مع الوثائق السرية، معللة قرارها برأي عضو المحكمة العليا المحافظ كلارنس توماس بأن تعيين سميث مخالف للدستور لأن مجلس الشيوخ لم يصادق عليه، وهو قرار يتوقع سميث أن تفسخه محكمة الاستئناف الفدرالية كونه يخالف كل السوابق القانونية.

قرار المحكمة العليا وسيلة تمكّن ترامب من تجنب العدالة...

وتزداد أهمية القرار في ترجيح تعليق استكمال الدعاوى المرفوعة ضد ترامب، وتأجيل إصدار العقوبات عليه في الدعوى التي وجدته فيها لجنة محلّفين مذنباً بأربع وثلاثين تهمة، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، وفي ظل عدم تمكين الناخبين من احتساب عنصر المساءلة في تكوين قرارهم في الاتخابات المقبلة، والخشية من أن يلجأ ترامب – إذا فاز – إلى محاكمة خصومه السياسيين كما هدّد غير مرة في حملته الانتخابية.

وتشير بيانات استطلاعات الرأي الحديثة إلى أن جزءًا كبيرًا من الجمهور الأميركي يعارض فكرة الحصانة الرئاسية، ويعتقد الكثيرون أن القانون يجب أن يكون فوق الجميع، وأن يخضع له الجميع يما فيهم الرؤساء والرؤساء السابقون. ورأى كثيرون من كتّاب الرأي والتحليل أن الناخبين، إذا أدركوا أن قرار المحكمة العليا وسيلة تمكّن ترامب من تجنب العدالة، فقد يؤدي ذلك إلى رد فعل سياسي ضده وضد الحزب الجمهوري. يسلط هذا الاحتمال الضوء على أهمية الحوار العام المستمر حول المساءلة الرئاسية والحاجة إلى إصلاحات على الإطار القانوني الذي يحكم التصرفات الرئاسية. وكان الرئيس بايدن فد كشف عن إعداد مشروع قانون لتعديل بعض مواد قانون المحكمة العليا، وأبرز ما فيه تحديد المدة القصوى لخدمة القاضي بثمانية عشر عاما بدل الخدمة مدى الحباة.

هذا في السياسة الداخلية. أما في ما يتعلق بالأمن القومي، فقد يبدو القرار غير ذي أهمية، لكنّه بالفعل غير ذلك. من المعروف أن لرئيس الدولة الكلمة الفصل في السياسة الخارجية والأمن القومي. إلا أن هذا القرار يعطي تلك الصلاحيات أبعادا أوسع، ويترك غموضا – قد يكون مقصوداً – حول قدرة المؤسسات الدستورية الأخرى، كالكونغرس مثلاً، على الوقوف في وجه الرئيس وإخضاعه للمساءلة. على سبيل المثال، يستطيع الرئيس بصفته قائدا للقوات المسلحة أن يأمر بتحريك القوات المسلحة إلى أي مكان خارج الولايات المتحدة. لكن الدستور يحصر في الكونغرس صلاحية إعلان الحرب. وعليه، فبعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001، وإظهار التحقيقات أن تنظيم القاعدة هو وراءها، قرر الرئيس جورج بوش الإبن تحريك القوات المسلحة نحو أفغانستان، وبعد ذلك بأقل من مئة يوم، أصدر الكونغرس قانوناً شرّع فيه تحريك االرئيس القوات المسلحة وعُدّ بمثابة إعلان حرب. وقد استخدم الرئيسان بوش وباراك أوباما هذا القانون للإبقاء على انتشار القوات الأميركية في الخارج، فيما عجز الكونغرس عن إصدار قانون ينهي فيه حالة الحرب والعمليات العسكرية في أفغانستان والعراق وسوريا.

الخطير في هذا القرار أن المحكمة العليا أعطت أمثلة قليلة اكنها لم تشرح تماماً حدود ما سمّته "المسؤوليات الأساسية" و"أطراف هذه المسؤوليات" وكلتا القئتين تتمتعان بالحصانة، وأين تقف حدود الأفعال المتأتية من تلك المسؤوليات وتبدأ حدود "الأفعال الشخصية" التي لا حصانة عنها.

ويبدو أن منطق أغلبية المحكمة العليا في هذا القرار هو في رمي مسؤولية حلّ تلك المسائل القانونية التي لم تُثَر سابقا على محاكم البداية والاستئناف، أو على الكونغرس باعتباره صاحب الصلاحية في إصدار القوانين. لكنّ الاستقطاب السياسي الحاد في السنوات الأخيرة حال دون إقرار الكونغرس العديد من القوانين التي تمسّ الحاجة إليها. حتى أن قوانين الموازنة كانت تقرّ بالتقسيط. وآخر مثال على عجز الكونغرس عن إصدار القوانين هو قانون تنظيم الهجرة، إذ إن ترامب، قبل نحو شهرين، منع أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الجمهوريين من توقيع مشروع القانون الذين كانوا اتفقوا عليه مع زملائهم الديمقراطيين.