يرصد المراقبون ويتلمّسون عبور أسبوع المخاوف القصوى من اندلاع حرب واسعة بين إيران وإسرائيل، واتجاه الوضع الميداني إلى شيء من الانحسار والحسابات الهادئة، ولمصلحة حرب نفسية متبادَلة على "إجر ونص" تعوّض عن الحرب الدموية، ليس فقط بفعل الضغوط الدولية وخصوصاً الأميركية، بل أيضاً بفضل المراجعات العقلانية التي أجرتها طهران مع أطراف الجبهة التي تقود في مربّع صنعاء العراق دمشق بيروت، وضلعه الخامس غزة.
وللدلالة على هذا التوجّه الإيراني المضبوط ليس هناك أبلغ من الكلام الواضح والصريح الذي قاله السيّد حسن نصرالله في خطابه الأخير أول من أمس على عدم دخول إيران في "قتال دائم" (والمقصود هنا بالطبع الحرب الواسعة)، وكذلك سوريا بسبب أوضاعها الصعبة (وكأنّ الحرب ستقع فقط على كاهل لبنان واليمن والعراق)، مع اكتفاء قائدة "محور المقاومة" ب"واجب" الرد المدروس والمحسوب بدقة على اغتيال إسماعيل هنية في عاصمتها.
وقد سبق لطهران أن وصفت ردّها بأنه سيكون "متناسباً" في إطار "الثأر والعقاب".
كما أن إشارة نصرالله إلى أن ردّ " حزب الله" قد يكون منفرداً (أو منسّقاً) مع سائر أطراف المحور تحمل في ذاتها مؤشّراً إلى عدم الرغبة في توسيع الحرب، خصوصاً مع تأكيده تكراراً أن إسرائيل هي التي تلجأ إلى التصعيد في حين أن "الحزب" يلتزم الضوابط الممكنة على مدى 10 أشهر.
وإذا أخرجنا هذا الكلام من سياق التكتيك الإعلامي على قاعدة "يُضمر غير ما يُعلن"، وأخذنا بجدّية التزامه، تكون إيران أخرجت نفسها فعلاً من مسؤولية التورّط في الحرب الواسعة، وحافظت على تقديم الدعم المادي واللوجستي والسياسي لأذرعها المقاتلة، كما يكون "الحزب" قد رفع عن كاهله مسؤولية التسبّب بهذه الحرب، لاسيما وأن قائده تراجع عن شعار "إزالة إسرائيل" (ولو مرحلياً) إلى شعار جديد هو "منعها من الانتصار"، كما أعاد التذكير بأنه يأخذ في الاعتبار الوضع اللبناني بما فيه من "مهرجانات واحتفالات".
سبق لطهران أن وصفت ردّها بأنه سيكون "متناسباً" في إطار "الثأر والعقاب".
على هذه الوقائع يمكن استشراف المرحلة الوشيكة، توسيعاً أو تضييقاً للحرب، أو دوزنتها على وقع المفاوضات والتسويات، بدءاً بغزة مروراً بجنوب لبنان ووصولاً إلى اليمن وإيران نفسها.
وهنا تصبح الأنظار مركّزة على إسرائيل، وعلى نتنياهو تحديداً، في قرار التوسيع أو التضييق، طالما أنه بدأ يستطيب ثمار انتقاماته في ما نفّذ من اغتيالات في ضاحية بيروت وطهران، ومن هجمات تدميرية ودموية في جنوب لبنان وميناء الحديدة اليمني وفي غزة نفسها.
ووفقاً للأهداف التي وضعها لحكومته فإنه سيستغلّ الردود العتيدة من طهران وأطراف محورها، مهما كانت مدروسة و"متناسبة"، وسيتخذها ذرائع حيّة لشن هجمات ارتدادية قد تبلغ حدّ الحرب الواسعة.
ولا يمكن تقدير مدى قدرة الإدارة الأميركية في شهورها الأربعة الأخيرة على زجره وضبط جموحه، طالما أنها ترفع شعار حماية إسرائيل وتحشد بوارجها ووحداتها القتالية من مضيقَي هرمز وباب المندب إلى البحر المتوسّط، لصدّ هجمات "المحور".
وهكذا يتضح أن قرار الحرب الواسعة بات في عهدة نتنياهو، لكنّه معلّق على خطورة الأذى الذي تُحدثه ردود إيران ومحورها، كما هو معلّق على القدرة في مواجهة حرب متعددة الجبهات.
ولهذه الأسباب تتريّث طهران في إطلاق ردّها وردود أذرعها، وتدوزنها تحت سقف الضوابط التي لا تتسبّب بكارثة حربية واقتصادية وسياسية و"نفوذية" غير مأمونة العواقب.
ولعلّ هذه الحسابات البراغماتية هي التي أمْلت على نصرالله الحديث عن "الروية" في الرد على اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر والقائد السياسي إسماعيل هنية.
ومن الواضح أن تعيين يحيى السنوار بديلاً من هنية كان للتعويض المعنوي أكثر منه للهدف القتالي طالما أنه القائد العسكري الفعلي ل"حركة حماس" في قطاع غزة، ولا يُضيف تعيينه شيئاً على الميدان ولا حتّى على المفاوضات.
ويبقى أن الحرب الواسعة ليست مشتهى، لا لإسرائيل ولا لأعدائها، وإذا كان أعداؤها يتحسّبون ويتريّثون ويعدّون للعشرة، فإنها قد تعدّ للمئة في حال كان عليها أن تواجه بمفردها 7 جبهات في آن واحد (إيران اليمن العراق سوريا لبنان غزة والضفة) بدون أن تحظى بالمساندة الأميركية المطلقة التي تمنّي النفس بها.
لكنّ الإعلان عن عدم دخول إيران في "قتال دائم"، في حال التزامه، قد يقدّم إغراءً لنتنياهو للتفرّد بأذرعها بدلاً من ربط ذراعه. فهل هذا هو المقصود، أم أن في الإعلان قطبة مخفية؟
في أي حال، إن وضع شيء من الماء في خمر نتنياهو يساوي وضع شيء من "الروية" والحكمة في جمر أعدائه.
"خير هذا بِشرّ ذا فإذا الله قد عفا"!