لا يهمُّ إذا لم تضع مخططًا يعرِّفُ بك أديبًا، أناثرًا كنت أم شاعرًا، أو حتَّى مفكِّرًا. يكفي أن تعبِّر عن رأي، في مقابلة، وعن خاطرة في خطاب، وعن شذرة في ندوة... فتجمعها لاحقًا، لتتكوَّن لديك رؤية شاملة تفيدك أولًا، ومن ثم تفيد القارئ، وتختصر بالتالي جوهر الكتابة.
سألني شاعر وروائي يؤثِر الانعتاق: ما الجديد الذي أضافته القصيدة بالفصحى في هذه الألفيّة، وما الرُّؤيا التي تسعى إليها؟ بكلام آخر، بعد مرحلة السِّتِّينات والسَّبعينات من القرن المنصرم ما هي طروحات الشِّعر العربي الحديث؟
أجبته: لا زمن للقصيدة. روزنامتها لا علاقة لها بالزمن. زمنها عمقها ولغتها وكلماتها وصورها وقوافيها وأسلوبها. لا أظن أن عنترة ابن هذه الألفية، ليكتب قبل ألف وخمسمئة عام، أجمل بيت غزل: "فودِدت تقبيل السُّيوف"... الشِّعر لا يكتب زمنه. يكتب ما بعد زمنه، أو يعتق ما مضى. أما الرؤية فيجب أن يكون الإنسان محورها، والإنسان هو نفسه لم يتغير، لأن طباعه لا تتغير، وبئس تطبعه الذي تفضحه إما لحظة غضب، وإما نوبة حزن، وإما هستيريا ضحك. وأما طروحات الشعر العربي الحديث، فباستثناء قلة نادرة من الشعراء والباحثين، ليست إلَّا نسخًا أو مِسخًا لطروحات غربية أو شرقية، لا أظن إسقاطها على واقعنا صحيحًا.
لا زمن للقصيدة. روزنامتها لا علاقة لها بالزمن. زمنها عمقها ولغتها وكلماتها وصورها وقوافيها وأسلوبها.
وسألتني مثقَّفة: في كلِّ الحروب، حمل المثقفون والشعراء السلاح ودافعوا عن أوطانهم. منهم من جُرح أمثال إرنست همنغواي وأندره جيد وغيوم أبولينير، ومنهم من مات دفاعًا عن أرضه أمثال شارل بيغي. أدباء كثر ذاقوا الاعتقال والسجن والنفي والشنق، أو على الأقل شاركوا في الثورات مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وآخرين. هل يقتصر حضور المثقف اللبناني على المقاهي والصالونات والمنتديات وعلى المنابر بكل مظاهر الأناقة، أم يجب أن يحذو حذو أبطال الكلمة الفعليين ويضحي تضحية حقيقية حتى لو عرض حياته للخطر؟!
هذا السؤال الذي نزل عليَّ بردًا وسلامًا، أجبت عنه: لا تعرفين، ربما، أنني ممن دفعوا ثمن كلمتهم، دفاعًا عالي الصوت، عن قضية يؤمنون بها، فسُجنت مرَّتين. لا بل ممن سُدَّت في وجههم سبل العيش، لأنني لست حيوانًا وحشيًّا لأروَّض، أو رَخوَ الدِّكة لأُغرى، أو حرباءَ حفافٍ لأتلوَّن. ليس عيبًا أن يكون المثقف أنيقًا، أو بوهيميًّا، ولا عيب إن ارتاد مقهى أو لبَّى دعوة صالون، العيب هو حين يناقض حرفه... فيكون مدَّعي ثقافة.
وطرحت عليَّ ناقدة، سؤالًا تحسُّه تقليديًّا، لكنَّه أحيا فيَّ كل ماضيَّ. قالت: بمن تأثرت وأنت في ريعان الشعر؟ فالشاعر الحقيقي هو من يحمل همَّ العالم على كتفيه، فهل هناك من يحمل همَّه؟ وهل يلقى التقدير ممن حوله كما يستحق؟
نبعت إجابتي من عاطفة وواقع. قلت: تأثرت، طبعًا، في صغري بأبي الشاعر أنطون يونس، الذي كان رئيس جوقة زجل "جوقة صنين". وعيت على قصائده وصوته الجميل، ولم أرث عنه سوى حبِّ القصيدة ولون عينيه العسليِّ. فتح لي هذا المناخ، في منزلنا، الأبواب على المعرفة والثقافة والتذوق، فتعرفت فيه إلى الكبير سعيد عقل، فأثرَّ فيَّ فكرًا وشعرًا وسعيًا إلى المطلق والأكمل. وقُيِّض لي أن أحتك وأعرف وأصادق كبار الشعراء: ميشال طراد، موريس عواد، جوزف حرب، أسعد جوان، سمير خليفة، أنطوان السبعلاني، أنطوان رعد، غسان مطر، عمر أبو ريشة، أنسي الحاج... وآخرين طبعًا. تأثرت بهم جميعًا، ولم أتأثر بأحد. قرأتهم، أحببتهم، وحين بدأت بالكتابة، نسيتهم جميعًا. فيَّ منهم كلهم، وليس فيَّ منهم شيء. أظنني صرت نفسي.
شاعر بالمحكية ومخرج، رأى "أننا بتنا نرى القصيدة المحكية تتفوق على القصيدة بالفصحى من حيث البلاغة في الطرح ومن حيث الدهشة، إلَّا في ما ندر.
هل توافق على هذه الرؤية؟ وإذا كنت توافق فما هي الأسباب في رأيك؟"
أجبته: قد يكون الطاغي في المناخ الفصيح، قصائد تقليدية، تجعل الناظر إلى طبيعة هذا الشعر يجمل كلَّ إبداع في ذاك الإطار التقليدي. ثمة قصائد بالفصحى تفوق بجماليتها، اليوم، كلَّ الشعر العربي. وهذه "العدوى" انتقلت إلى القصيدة المحكية، بلا شك. فمن زجل المنابر، إلى القصيدة التي تُقرأ في ديوان، إلى زوال اعتبارات عقائدية أو فكرية كانت تمنع شاعرًا من الإفصاح عن هوية محكية يخفيها. جبران كتب المحكية، خليل حاوي، غسان مطر، جوزف حرب... وآخرون كثر. جبران لم ينشر، وحاوي كذلك. حرب ومطر نشرا لاحقًا. لا تفوُّق للمحكيَّة على الفصحى، والعكس صحيح. التفوُّق في القصيدتين، يكمن في أساليبهما، وصورهما الجديدة، والرمزية والإيحاء والدلالة، فضلًا عن الحبكة والقرب من محاكاة القلب والشعور، بعيدًا من المباشرة.
صحافي وكاتب غادر هذه الفانية، طالعني في ندوة بسؤال: "جبت رِحاب الكتابة، صحافيًّا، شاعرًا، أديبًا، مسرحيًّا. ما الفرق بين أنواع الكتابة الفنّية هذه؟ وهل من الضّروري أن يكون الصحافيّ أديبًا؟
أجبته، رحمه الله، "لا فرق بين كل هذه الأنواع، ما دام جوهرها واحدًا، أي الإبداع في خدمة الجمال. وإذا كان الأدب، شعرًا أم نثرًا، يقوم مما يقوم عليه، على الرؤية والجمالية والبلاغة والفصاحة والدهش، فقول الحقيقة في الصحافة هو الجمال المطلق، لأن الحقيقة هي الَّتي تحرر. ومن خلال باعي الطويل في الصحافة، توقفت كثيرًا عند الصَّحافي الأديب، وتأثرت بأكثرَ من قلم، ولم يعنِني يومًا من يكتب مقالته نقلًا عن مصدر ومرجع، رفيع أو مطلع... ليس إلَّا. حتَّى في المقالة المباشرة الإخبارية الطابع، أفتِّش عن لمعة أدبية، أحكم من خلالها على قماشة صاحبها.
واستطرد، رحمه الله، إلى سؤال آخر: من خلال تجربتك الإِعلاميّة الواسعة، إِذاعيًّا، كتابيًّا وتلفزيونيًّا، أين تجد نفسك أكثر؟ أجبت: أجد نفسي حيث أكون نفسي. لا يهمُّني شكل الوسيلة الإعلامية حيث أعمل، بمقدار ما يهمني أن أكون الأخلاق الإعلاميَّة جميعًا، والحريَّة التي سقفها الحقيقة، والصوت الصارخ، والمهنيَّة العالية، والحرفيَّة المتقنة.