لطالما اقترنت نظرة الشعوب إلى جيوشها بالاعتزاز والعنفوان والشغف الوطني، ولطالما شكّل وجود دولة قانون ومؤسسات وفصل سلطات مناعة لهذه الجيوش من الوقوع في فخّ الجموح إلى السلطة وأنظمة العسكريتاريا أو الانتهاء أداة للقمع والتنكيل في الأنظمة الديكتاتورية، أو التحوّل إلى "حصان طروادة" خدمة لمطامع فردية. أمّا في "جمهوريات الموز" وأشباه الدول، فالجيوش إمّا محجّمة الدور أو محمّلة بأثقال صراعات أهل السياسة وفشلهم أو منتهَكَة الصلاحيات.

لبنان، وبخلاف الدول المحيطة التي توزّعت بين المحكومة بالأنظمة المتوارثة بقرابة الدم من ممالك وإمارات وسلطنات، أو تلك الناجمة عن الاستثمار بالدم من أنظمة ديكتاتورية وعسكريتارية، تميزّ منذ نشأته بنظامه الجمهوري رغم تشوّهات خلقية بنيوية، ما جعلت من جيشه محصّناً من وباء الانقلابات التي قادها العسكر في دول الجوار. إلّا أنّه رمى على كاهل هذا الجيش إخفاقات أهل السياسة واللا قرار الذي تحكَّم بالسلطة الحاكمة جرّاء تشرذمها طائفياً وارتباطاتها خارجياً. فبلاد الأرز ومنذ الاستقلال عام 1943 كانت محكومة بلعنة الجغرافيا، ومثقلة بالموروثات التاريخية لمكوّناته وارتباطات بعض منها الـ"ما فوق وطنية" من منطلقات دينية.

فالجيش اللبناني الذي كان طري العود عشية ثورة 1958 استطاع تخطي مطبّها وارتدادات المد الناصري، إلّا أنّه وقع في مستنقع "العمل الفدائي الفلسطيني" منذ منتصف ستينات القرن العشرين حيث ناصر البعض من اللبنانيين القضية الفلسطينية على حساب السيادة وكرامة جيش الوطن واحتكار الدولة وفق تعريفها الأساسي "الاستخدام الشرعي للقوة". فكان التفلّت الفلسطيني المسلّح وصولاً إلى مواجهات مباشرة مع الجيش، انتهت بـ "اتفاقية القاهرة" عام 1969 التي تنصّل أهل السياسة من تحمّل مسؤولية التوقيع عليها، كونها عملياً تشرّع والعمل العسكري الفلسطيني في لبنان بما يعد انتهاكا للسيادة الوطنية. لذا رميت مسؤولية التوقيع على هذا الاتفاق على كاهل الجيش، الذي ترأس قائده العماد إميل البستاني الوفد اللبناني ووقّع عليه في ظلّ اعتكاف رئيس الحكومة رشيد كرامي.

كرّت بعدها سبحة تحميل الجيش تداعيات الانقسام العامودي السياسي والشعبي في البلد الذي كبّل الدولة عن القيام بواجباتها. فكانت الإشكالات شبه يومية بين "الجيش" والفلسطينيين الى أن تطورت الى اشتباكات دموية عنيفة بينهما في أيار 1973 عقب الإنزال الإسرائيلي في بيروت في نيسان 1973 واغتيال ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في منازلهم في شارع فردان، حيث اتّهم مؤيدو الفلسطينيين الدولة اللبنانية وأجهزتها بالتخاذل والتواطؤ، وطالب رئيس الحكومة صائب سلام بإقالة قائد الجيش اسكندر غانم من منصبه متّهمًا إيّاه بالتقصير. رفض رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الأمر، فكان ردّ سلام تقديم استقالة حكومته. مُنع الجيش اللبناني من القيام بواجبه الوطني وفرض الأمن بوجه التفلّت الفلسطيني المسلّح وصون السيادة، فخوّن واتّهم بالطائفية. بينما استخدم الجيش الاردني الطيران في ما عرف بـ"أيلول الاسود" العام 1970 للقضاء على التمرّد الفلسطيني على سيادة الأردن. دفع الجيش اللبناني فاتورة الانقسام الطائفي والولاء الخارجي والضغط العربي، بينما الجيش الأردني لم يتوقّف عند أيّ ضغط عربي وقطع الطريق على أيّ ولاء خارجي، مستنداً على عدم القدرة على المزايدة على الملك حسين طائفياً وهو الهاشمي الأصيل. أفضت مواجهات 1973 في لبنان إلى "اتفاق ملكارت" المكمّل لاتّفاق القاهرة. ثم انهارت الدولة المترنّحة يوم انقسم الجيش مع انطلاق شرارة الحرب في 13 نيسان 1975.

مع انتهاء الحرب ميدانياً في 13 تشرين 1990 بعد سقوط ظاهرة العماد ميشال عون بعد إقحامه الجيش في حربي التحرير والإلغاء، ومع انتهائها سياسياً بولادة اتفاق "الطائف" في 30 أيلول 1989، كان من المفترض أن تحلّ جميع الميليشيات ويعالج سلاح المخيّمات الفلسطينية ويمتلك الجيش اللبناني حصرية السلاح. إلّا أنّ "الانقلاب على الطائف" وتلزيم لبنان لسوريا بقيادة حافظ الأسد عقب اجتياح العراق للكويت، جعل جميع مؤسسات الدولة اللبنانية بما فيها المؤسسة العسكرية تعيش تحت كاهل النظام الأمني اللبناني -السوري.

لنكفّ عن محاولات إقحام الجيش في الصراعات السياسية، ولنتعّظ من تجربة 1975

بعد العام 2005 وخروج السوري، بقيت أمور جمّة ترمى على كاهل الجيش اللبناني وبعضها في الأساس ليس من مهامه، وسط استمرار الانقسام السياسي الحادّ وجرّاء فشل العبور إلى الدولة:

*الجيش مطالب بفرض الاستقرار الأمني في الداخل، فيما الصراع السياسي في البلاد يحقن الشارع ويفتعل الإشكالات على وقع الاغتيالات ومسلسل الانفجارات. حين يتصدّى للمسلّحين يخوّن، كما جرى على سبيل المثال خلال حادثة الطيونة.

* الجيش مطالب بضبط السلاح الفلسطيني، فيما البعض يمسك بهذه الورقة عبر الاستثمار عسكرياً وأمنياً في المخيّمات الفلسطينية وجعلها واحة تحتضن كلّ الإرهابيين والأصوليين والمطلوبين في العالم. على سبيل المثال، عشية خوض الجيش معركة نهر البارد عام 2007 بوجه الارهابي شاكر العبسي ومسلحيه أطلّ أمين عام "حزب الله" معلناً أنّ "مخيم نهر البارد خطّ أحمر".

* الجيش مطالب بأن يكون "سياج الوطن" ويضبط الحدود، فيما أطراف رئيسة تعيق ترسيم الحدود مع سوريا وتتعمّد تركها سائبة وتغطّي المعابر غير الشرعية. رغم ذلك، يطلّ علينا وزير دفاع متّهِماً الجيش بالتقصير في ضبط الحدود وهو يدرك جيداً أنّ الجيش أداة تنفيذية للقرار السياسي الرسمي. كذلك جنوباً، ظلّ بعضهم يرفض إرسال "الجيش" إلى المنطقة مدّعياً أنّه بذلك يكون حرس حدود للعدو الاسرائيلي الى أن أتت حرب تموز 2006 وتوّجت بالقرار 1701 الذي استدعى انتشار الجيش على الحدود، وسار هذا البعض صاغراً خاضعاً للأمر الواقع.

* الجيش مطالب بمكافحة المجموعات الأصولية التي ما كانت لتوجد في لبنان لو لم يكن هناك من سهّل تشكيلها أو دخولها أو تدريبها أو حركتها. من "التكفير والهجرة" في الضنية عام 2000 إلى "فتح الاسلام" في نهر البارد عام 2007 وصولاً إلى "القاعدة" و"داعش" وما بينها من ظواهر عسكرية أصولية، واجهها الجيش ببطولة ومسؤولية وقدّم الشهداء. نجح بالقضاء على النتيجة، ولكن لم يُسأل أحد عن السبب ولم يحاكم من سهّل أو فبرك أو حرّك هذه المجموعات.

* الجيش مطالب بمكافحة زراعة المخدّرات والإتجار بها ويسقط له الشهداء في حربه عليها، فيما خلال عام 2012 وقع اشتباك كبير في اليمّونة وتعرّضت القوى الأمنية خلال عملية التلف لإطلاق نار ما أدّى إلى إصابة 5 آليات عسكرية بعدما عمد الأهالي الى إقفال مداخل البلدة بوجه الدولة. كذلك جرى تهديد أصحاب الجرارات الزراعية التي تشارك بالتلف والاعتداء عليهم. لم يرفع الغطاء السياسي عن التجار ولم يؤمّن القرار السياسي ليقوم الجيش بالضرب من حديد فيقطع دابر الزراعة. توقّف التلف السنوي منذ ذاك العام، لكن محاربة التصنيع والإتجار مطلوبة من الجيش.

كل هؤلاء يطالبون الجيش وبعضهم يلومونه اليوم ويتحدّث عن عجز الجيش وعدم تسلّحه لتبرير استمرار "المقاومة الاسلامية" في حمل السلاح تحسّباً لأيّ اعتداءات إسرائيلية. لكن ليتهم جميعاً "يحلّوا عن الجيش" ويتذكروا أنّ المؤسسة العسكرية تنفّذ القرار السياسي الرسمي في البلاد وأن جيشنا يتمتّع بعنصر بشري يقاتل في الميدان بشراسة لا يتلطّى خلف سلاح الجو. أمّا شحّ السلاح فيستعاض عنها بسلاح الديبلوماسية للضغط على إسرائيل.

ليتهم يستبدلون همروجة اللافتات وبيانات المعايدة للجيش في عيده في الأول من آب بوقف وضع العوائق أمام عمل الجيش ووقف استجلاب المخاطر الأمنية ورميها بوجهه. لنتذكّر أنّ المؤسسة العسكرية قد تكون الوحيدة التي تعمل بانتظام في ظل الانهيار الذي تعيشه البلاد والفراغ في الرئاسة الأولى والتخبّط في صفوف حكومة تصريف الأعمال والشلل في مجلس النواب وتآكل المؤسسات. لنكفّ عن محاولات إقحام الجيش في الصراعات السياسية، ولنتعّظ من تجربة 1975 أنّه حين يصاب الجيش بالشلل أو ينقسم، تنهار الدولة.