لم يأتِ التاريخ الحديث للبنان على ذكر مرحلة كانت خطيرة اقتصاديًا كما هو الحال اليوم. حتّى خلال الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي بقي الاقتصاد مُستمرًا وبقيت الماكينة الإنتاجية تُغطّي مصاريف الدولة والشعب على الرّغم من الدمار والتعطيل اللذين حصلا والانقسامات الجغرافية.

حاضرًا، تغيّر الوضع مع كلّ ما يواجه لبنان من تحدّيات داخلية وخارجية وانقسام سياسي وصل إلى حدّ إفراغ الدولة ومؤسساتها من كوادرها الإدارية. ولم يستطع المسؤولون السياسيون وزعماء الأحزاب على الرّغم من مسيرتهم السياسية الطويلة استيلاد حلول لإخراج لبنان من حلقة مُفرغة بدأت في تسعينيات القرن الماضي وما زالت مُستمرّة حتّى الساعة.

لقد فشلوا في بناء اقتصاد قوي يسمح للبنان واللبنانيين باستدامة مداخيلهم. وبدل أن يعمدوا إلى دراسة مكوّنات الناتج المحلّي الإجمالي واتخاذ إجراءات مؤاتية لتحليل النمو الاقتصادي وتدعيمه، تصارعوا على تقاسم الحصص والمحسوبيات والنفوذ داخل الدولة، مُعتمدين على تدفّقات مالية هائلة وصلت إلى مستويات تاريخية في العقدين الماضيين (ودائع القطاع المصرفي تخطت 5 مرات حجم الاقتصاد اللبناني) من دون تصويبها، كاستثمارات في القطاعات المُنتجة، بل أخذت الدولة تقترض من هذه الأموال لتموّل إنفاقها اللاعقلاني خلال نحو عشرين عامًا.

رسم 1: النمو الاقتصادي اللبناني من العام 2002 إلى العام 2021 (مصدر: البنك الدولي)

ويكفي النّظر إلى تغيّرات النموّ الاقتصادي الذي سجّله لبنان منذ مطلع القرن الحالي لمعرفة مدى عشوائية القرارات التي اتُخذت على صعيد السياسات الاقتصادية. إذ إنّ تعلّق النمو الاقتصادي بالأحداث السياسية والأمنية شكّل حالة تُدرّس في المناهج الإعلامية (أنظر الرسم البياني الرقم 1).

"انغشّ" اللبنانيون بحجم التدفّقات المالية إلى لبنان بفضل السرية المصرفية، ودعم البلدان الخليجية في بعض الأحيان، وظنّوا أنّهم بنوا اقتصادًا قويًا. إلّا أنّ هذا الأمر لم يعكس حقيقة الواقع المرّ، بعدما صرفت الدولة أموال المودعين في المصارف على إنفاقها الجاري من الكهرباء إلى الاتصالات مرورًا بالطرق والبنى التحتية والتوظيف وغيرها.

إنّ لبنان يواجه تحدّيات كبيرة جدًا وأكبر من أن تستطيع الطبقة السياسية التصدي لها بقرارات عادية، إذ تستلزم إرادة وطنية جامعة لا يكون فيها للحسابات الضيقة مكان. في عداد هذه التحديات:

هيكلية الاقتصاد – يعيش لبنان على قطاع الخدمات (بالتحديد السياحة والتجارة) وعلى مُساهمة المُغتربين. ولا يُساهم القطاعان الأولي والثانوي إلّا بجزء قليل لا يتعدّى الـ 10% من الناتج المحلّي الإجمالي. وبالتالي، فإنّ هذه الهيكلية غير مُستدامة، وتحتاج إلى إعادة هيكلة جدّية تأخذ في الاعتبار حاجات السوق اللبناني، التي تُستورد بنسبة تبلغ نحو 80% من استهلاكها. وهذا يعني أنّ القطاعين الصناعي والزراعي بحاجة ماسّة إلى خطط تحفيز بشكل كبير وفعّال لخفض نسب التعلّق بالاستيراد من 80 إلى ما دون 40% على مراحل متتالية، تبدأ بإمكان تصنيع نحو 20 مُنتجًا الأكثر استيرادًا وزراعته مع فرض حماية جمركية، وتنتهي بصناعات مُتطورة للتكنولوجيا على غرار ما حصل بين الجامعة اللبنانية ومؤسسة طلال بو غزالة حيث تُصنّع لوائح كمبيوتر (Tablets) في مُجمّع الفنار الجامعي. والمجال الأقرب إلى التحقق على هذا الصعيد هو الذكاء الاصطناعي. فهناك المئات من أهل الكفاية اللبنانيين الذين يعملون في شركات خارجية من دون أن يكون هناك استفادة للماكينة الإنتاجية اللبنانية من مهاراتهم.

المالية العامّة – تُعاني مالية الدولة عجزًا فعليًا لا يقلّ عن ثلاثين بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي. ولم تتمكّن موازنة العام 2024 من طمس الحقيقة المرّة، وهي أنّ هناك ملياري دولار أميركي، على الأقل، مستحقات على الدولة اللبنانية لمصلحة الحكومة العراقية (ثمن الفيول)، لم تُدرج في موازنة العام 2024 البالغة ثلاثة مليارات دولار أميركي. وهذا يشي بأنّ استدامة الوضع مستحيلة، لأنّ هذا العجز يتراكم في حسابات مصرف لبنان حيث لا تملك الدولة فيها أكثر من مليار دولار أميركي. من هذا المُنطلق، يجب إعادة هيكلة القطاع العام وإدارته بالشراكة مع القطاع الخاص لأنّه السبيل الوحيد إلى إدارة فعّالة لا تُراكم الديون. هذه الإدارة كفيلة بتكوين فائض يُستخدم لسدّ ديون الدولة إلى مصرف لبنان والمصارف التجارية، من ثمّ إلى المودعين.

القطاع المصرفي – لا يُمكن أي اقتصاد في العالم أن ينمو خارج إطار القطاع المصرفي، لأنّ الاقتصادات الحرّة مبنية على رافعة الاستدانة، وعلى ما يُعرف بالـ Credit Multiplier. وهناك علاقة بين حجم القطاع المصرفي والنمو الاقتصادي على شكل جرس، بحكم أنّ حجم قطاع مصرفي كبير أو صغير له تأثير سلبي في نمو الإنتاج (Cecchetti& Kharroubi 2012)، والسبب يعود إلى أنّ تطور القطاع المصرفي يدفع الاقتصاد إلى النمو في بلد قطاعه المصرفي غير متطور، لكن التأثير يُصبح سلباً عندما يتخطّى حجم القطاع المصرفي حجمًا معينًا (Critical Size). ويُفسّر "كينير" هذه الظاهرة بأنّ القطاع المصرفي يجذب أكْفاء على حساب الماكينة الاقتصادية (أنظر الرسم البياني الرقم 2).

رسم 2: العلاقة بين حجم القطاع المصرفي والنمو الاقتصادي (مصدر: حساباتنا)

من هنا، تتضح أهمّية إعادة هيكلة القطاع المصرفي من دون المسّ بحقوق المودعين – أي التزامات المصارف تجاه المودعين، وهي تسقط لمجرّد إفلاس المصرف. عدّة اقتراحات على هذا الصعيد مُتداولة، وقد أشرنا إلى بعضها في مقال سابق تحت عنوان: اقتراحات للخروج من الأزمة في ظلّ انسداد الأفق السياسيّ على سبيل إغناء النقاش وعدم حصر الحلول بشطب الودائع، وبالتالي إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإحيائه من دون المسّ بحقوق المودعين.

الفساد – أصبح الفساد آفة فعلية في جسم الاقتصاد اللبناني حتى أنّه قضم سنويًا أكثر من 20% من حجم الاقتصاد في الفترة التي سبقت الأزمة (أكثر من عشرة مليارات دولار أميركي سنويًا). وبما أن الفساد ينبع من مؤسسات الدولة بتمويل من القطاع الخاص، هناك ضرورة لجعل إدارة مؤسسات الدولة في عهدة القطاع الخاص مع رقابة فعّالة من قبل أجهزة الدولة وجمعيات من المُجتمع المدني تُعنى بمحاربة الفساد.

جريمة مجدل شمسّ – مما لا شكّ فيه أن الجريمة التي حصلت أولّ من أمس في مدينة مجدلّ شمسّ، والتي يُحاول العدو الإسرائيلي استغلالها لضرب لبنان، ستكون ذات تداعيات اقتصادية ومالية كبيرة على الواقع الاقتصادي إذا قرر هذا العدو ضرب لبنان على نطاق واسع. في حال حصول أمر كهذا سيُشكّل القشة التي قصمت ظهر البعير. من هذا المُنطلق، على الدولة اللبنانية القيام بكلّ ما يلزم ديبلوماسيًا لمنع العدو من استغلال هذه الحادثة تحت طائلة انهيار ما بقي من مقومات المجتمع اللبناني.