أجملُ ما يأتي به دوميط منعم أنَّه يشرِّف كلَّ من يعرِفه. فقد شرَّفني أولًا حينَ عرفت قصَّته من دون أن أعرفَه. وعندما التقينا، أوَّل مرَّة، في البترون، قبل سنواتٍ معدودات، جمَمْت بقبلةٍ طبعتُها على جبينه النَّقيِّ كلَّ الشَّرف. وأوَانَ قصَدني إلى توقيعِ أحدِ كُتبي في أنطلياس، فتحت ذراعيَّ، ما اتَّسعتا، لأعانقَ الشَّرف المقبل عليَّ، على كرسيٍّ متحرِّك. وحين تحدَّثت عنه في مناسبة شاركنا فيها معًا في بلدة مزيارة، رجوْت منه لو يسمح لي بأن أسرِق ابتسامتَه، كي أعمِّر أملًا لما بَقي لي من عمُر.

دوميط منعم المخلَّع الذي لا يقوى على الحركة، منذ خمسة وثلاثين عامًا، ابن قرية أجدبرا البترونية، تعرّض لحادث أثناء عمله، في 12 تموز 1989، فدقّت رافعةٌ عنقه مما أدى إلى قطع نخاعه الشوكي، وإصابته بشلل تام وتعطّل جهازه التنفّسي... وهو مذذاك طريح الفراش في مستشفى الدكتور إميل البيطار في البترون.

لكن دوميط منعم المخلَّع، وهو اليوم في الخامسة والخمسين، وضع خمسة كتب حتَّى الآن، والسَّادس على الطريق... فكانت: "مُخلّع على دروب الحرّية" عام 2000، و"خبزًا للآخرين" عام 2003، و"مخاض السواقي" عام 2005، و"صدى السكوت" عام 2013، و"كلمات لا تعرف الصَّمت" عام 2019. وجلها عبارة عن تأملات وخواطر في الحياة، تختصرها كلَّها ابتسامته التي تعلو محيَّاه، ولا تفارقه، أينما التقيته. وهو في نضال فَرِحٍ من أجل الحياة والبقاء، من دون حَراك، ما خلا عينيه اللتين تتحركان وحدهما، أو عينًا تقع عليها أشعة حمراء من جهاز كومبيوتر متطور، فتأمره بأن يكتب، فيكتب باحثًا عن الحبّ والحرّية والأمل، وحبّ الحياة والمواجهة، والعزم والإرادة، في جهد رسولي يتطلب صبرًا وطول أناة.

وهو يلبي دعوات إلى احتفالات وندوات، مشغوفًا بالقراءة "سلواه" الوحيدة، بعدما استقر وضعه، على أثر الحادث. تقله سيارة إسعاف مجهزة، على كرسي متحرك مزود أجهزة تنفس... وحين يكلمك، بصوت متقطع ومتهدج، تجذبك نبرة الثقة في صوته، وذلك الحبّ الذي يفيض من عينيه.

خمسة وثلاثون عامًا، وملاكه الحارس والدته التي نذرت نفسها لخدمته، عادَّةً بقاء دوميط حيًّا بعد ذاك الحادث الرهيب "نعمةً"، فضلًا عن خدمة ممرضين وممرضات له، ووجود أهل وأصدقاء إلى جانبه.  

وضعتُ مقدِّمة لكتابه "كلمات لا تعرف الصَّمت"، لكنني حين تأمَّلت بابتسامته، ووجهه السمح، سألته هل تعرف يا صديقي بمَ أشبِّه ابتسامتك؟

صمتًا، صمتًا... عفوَ كلماتك دوميط.

أمَّا عينُك الَّتي تكتب، يا صديقي، فما هي إلَّا بصرٌ مولود من رحِمِ بصيرة، تنحطم أمام صفائها، كلُّ أقلام الدَّجل والرِّياء

إنِّي أرى أربعة رجال، يفتحون كوَّة في سطح، حيث كان يسوع وسط جموع في منزله في كفرناحوم... ويُدلون منها بمخلَّع على سريره، إيمانًا منهم بأنَّه سيشفيه، لا مَحالة.

وإنِّي أسمع صوتًا من بعيد، يقول: قم واحمِل سريرَك وامشِ.

قم يا دوميط... إنَّه يخاطبك.

فهو يعرف ابتسامتك، وقد وهبَك نعمتَها، ليقول لنا إنِّها ليست سوى تلك الكوَّةِ، نلجُ منها إلى بيت الأمل، حاملين الصَّبر على سرير، لأنَّنا نحن نحن المخلَّعون، لا أنت يا من سمَّوك أو سمَّيت نفسَك مخلَّعَ البترون؟ أصحاء، أجل، ربما، من يدري... لكنَّنا عاجزون عن الإتيان بما يأتي به دوميط من معجزةِ بقاء وتحدٍّ للحياة.       

مخلَّعون؟ أجل وأكثر. لا بل نحن نحن البطرانون، نملِك الكثير ونريد أكثر... ولا نعمل بالوصيَّة: لا تكنِزوا في الأرض بل في السَّماء... وتَرانا نُقيم صروحًا وقصورًا بحثًا عن جاهٍ وعظمة، فيما هذا المقيم في غرفةٍ... راضٍ بخُلعتِه، يسكُن سماءَ ابتسامته، بفرح يحسده عليه الفرح جميعُه.

أمَّا عينُك الَّتي تكتب، يا صديقي، فما هي إلَّا بصرٌ مولود من رحِمِ بصيرة، تنحطم أمام صفائها، كلُّ أقلام الدَّجل والرِّياء، كلُّ يراعةٍ جاريةٍ في سوق نِخاسة، كلُّ مِحبرة أفرغت نفسها لتتحوَّل بيتَ بِغاء.

لن أحمِّلَك أكثرَ يا صديقي المنعتقَ إلى صبرِك الجميل، وسكونِك الباسم، وإيمانِك الذي سينقل جبالًا، يومًا ما.

قم أنتَ واحمِل سريرك وامش... ما زلتُ أسمعه يأمرك أنْ قم.

ولْأقُمْ أنا، بانكساري أمام إرادتِك، إلى ما أظنُّه قد يرتقي بي ولو قليلًا إلى مستوى ظلٍ لجُرحِك الصَّامت، فإليك "حَبَّةُ الْخَرْدَل":

إِقْرَأْ... كَأَنْ نَزَلَ الْكِتَابُ وَأَكْمَلْ

مَعْنَى الْوُجُودِ، وَبِالرَّجَاءِ تَسَرْبَلْ

إِقْرَأْ... تَرَ الصَّوْتَ الْخَبِيءَ مَنَارَةً

وَلَعَلَّ بُحَّتَهُ السِّرَاجُ الْأَجْمَلْ

يَهْدِيكَ شَاطِئَ نِعْمَةٍ وَقِيَامَةٍ

قُمْ وَاحْمِلِ الصُّلْبَانَ، ثُمَّ تَرَجَّلْ

فَالْعُمْرُ جُلْجُلَةٌ وَأَنْتَ مَسِيحُهُ

شَاءَ الْمَسِيحُ جِرَاحَهُ... فَتَجَمَّلْ.

إِقْرَأْ، تَرَ الْعَيْنَ اغْتِسَالَ أَصَابِعٍ

بِالنُّورِ، كَيْمَا يَرْتَقِي... يَتَبَتَّلْ

أَضْحَتْ كَرَاهِبَةٍ بِدَيْرٍ نَاسِكٍ  

لَمْ يَبْقَ مِنْ جَسَدٍ، سِوَاهَا يَفْعَلْ

وَالْفِعْلُ إِيمَانٌ، لِمَ الْأَيْدِي إِذَا

لَمْ تَرْفَعِ الْأَيْدِي الْحِمَالَ الْأَثْقَلْ؟

وَلِمَ الْمَسِيرُ إِذَا تَدَلَّتْ أَرْجُلٌ

لَا الشَّوْكُ جَرَّحَهَا لِكَيْ تَتَحَمَّلْ

لَا الْعَزْمُ حَفَّزَهَا لِتَجْعَلَ وَقْعَهَا

كُلَّ الْأَمَامِ... وَكُلَّ خَطْوٍ أَوَّلْ؟

إِقْرَأْ كِتَابَ الْبَسْمَةِ الْعَذْرَاءِ، قَدْ

شَرَعَتْ ذِرَاعَيْهَا، فَجِئْ وَتَغَلْغَلْ

تَقْطِفْ ثِمَارَ الْحُبِّ أَيْنَعَ طَعْمُهَا

تَجْمَعْ أَزَاهِيرَ الْهَنَاءَةِ... تُشْتَلْ

غَرْسًا كَأَنَّ الْأَرْضَ غَابُ مَحَبَّةٍ

سَكَبَ الْمَسِيحُ بِهَا دِمَاهُ... وَأَنْجَلْ.

إِقْرَأْهُ قَلْبًا بِالسَّمَاحَةِ نَابِضًا

كَالطَّيْرِ، حَلَّقَ ثُمَّ غَطَّ وَعَنْدَلْ

نَشَرَ السَّعَادَةَ فِي الْقُلُوبِ وَحَسْبُهُ

مِنْ كُلِّ غُصْنٍ، مُؤْمِنٌ يَتَأَمَّلْ:

مَا ذِي الْحَيَاةُ سِوَى الْتِمَاعَةِ عِبْرَةٍ

أَلرُّوحُ جَوْهَرُهَا، الْغِلَالَةُ هَيْكَلْ  

وَالْمُسْتَحِيلُ سَرَابُهَا... أَعْمِلْ بِهِ

إِزْمِيلَ فِعْلِكَ... هُدَّهُ وَتَوَكَّلْ

فَلَأَنْتَ مَا قَالَ الْمَسِيحُ، إِذَا تَشَا،

بَدَّلْتَ مَا لَا فِي الزَّمَانِ تَبَدَّلْ

آمِنْ بِهِ تَنْقُلْ جِبَالًا، وَاجْتَرِحْ

آيَاتِ بَذْلٍ تَصْطَفِيكَ الْأَمْثَلْ

يَكْفِيكَ أَنَّكَ بِاسْمِهِ وَعَلَى اسْمِهِ

جَسَّدْتَ قَوْلًا عَنْ حُبَيْبَةِ خَرْدَلْ.

دوميط منعم الَّذي لا يعرف الصَّمت... دَعْنا دومًا نَقُمْ إلى وليمةِ كلمتِك المباركة، علَّنا ندخلُ خَرم الإِبرة، وبابَ الخلاصِ الوسيع.