لم يتعب الدكتور مازن عبود وهو يسعى إلى ردم الهوة بينه وبين أنيس فريحة. تراه كل أسبوع، وعلى غرار أسلوب صاحب "إسمع يا رضا"، ينشر مقالة صحافية أسبوعية في صحيفة "النهار"، ليجمع المقالات بعد مدة، في كتاب، يكون وصايا غير وعظية لجيل يفتقر إلى الكثير من الأصالة والمعرفة.

فأنا لا أدَّعي... بل أجزُم، شاء ابن عبُّود أم أبى، أن ليس ما بين أنيس فريحة ومازن عبُّود فرق شاسع، إلَّا في الزَّمن. "إسمع يا رضا" لفريحة، كان وصايا أبٍ لابنه أن حافِظ على أصالة العادات اللُّبنانية والتَّقاليد، في دراسة اجتماعيَّة عن القرية وأهلها، تضمَّنتها الحكاية. و"حكايا لطفل كبير" أحدث كتب عبُّود، وبعد خمسة عقود على الحكاية الأمِّ، وصايا من أب لابنه ديمتري، وأترابه، لئلَّا تضيعَ تلك الأصالة وسط المدنيَّة المتوحِّشة الَّتي تكاد تقضي على قيمٍ كان "رضا" يحفظها عن ظَهر قلب.

وسبق هذا الكتاب لعبود، كتب ثلاثة في الإطار نفسه "ذكريات صبيِّ المحلة"، و"كفرنسيان"، و"قصص وأزمنة من أمكنة"، وقد دارت مضامينها على قريته الجميلة دوما، قبل أن تتوَّج أفضل قرية سياحية ضمن منافسة شملت 60 دولة.

وهو، إلى هوايته الأدبية الكتابية، مستشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للبيئة – خطة المتوسط، ومتخصص في إدارة الأعمال والهندسة، وأستاذ جامعي، وعضو مجلس إدارة حصر التبغ والتنباك (الريجي). وقد نال شهادة دكتوراه في الاقتصاد بدرجة ممتاز من جامعة القديس يوسف في بيروت، مصدقة من جامعة ماك ماستر، عالجت إيرادات قطاع التبغ في لبنان وتكاليفه، من خلال دراسة إدارة الريجي (2016-2019).

مازن عبود إذًا هو الموقِّع أعلاه، على قرميد الذَّاكرة، بدهشة عيني طفل، وما قرميد دوما سوى موطئ جناح، نادته الفضاءات فما تعبت من صفقه. وهو الموقع أعلاه، على مصطبة الوجدان، بأصابعَ من فراشاتٍ وعصافير، وعلى قبَّعات الشَّجر في جرد دوما، بقدمين حافيتين، وعلى حفافي الحقول، بشمسٍ من عينيه لا تعرف المغيب والأحلام، فجمع تحت جناحيه مطارح ووجوهًا وأحوالًا وشهادات. وكمن يكسر كأس عرق، جاء بأمكنة تنبع من عينين صافيتين، وبأزمنة مقطرة مثلثة أصيلة، ليطفح الكوب بقطعة ثلج من روحه.   

وهو الموقِّع أعلاه، بحبر النُّوستالجيا، على حيطان السُّوق القديمة، وأبواب محالِّها، وأكياس الطَّحين والبرغل فيها، في هذه القرية الَّتي وعيتُ على حكاياها يرويها أجدادي ووالداي والأقارب: "عملنا مشوار ع دوما تَ نتموَّن".

وهو الموقِّع أعلاه بنبض النَّاس ووجوههم وقاماتهم، وبتربُّع طربوشٍ على رأس من هنا، ولِيَّة شروال تترجِّح من هناك، وبطعم عجينة زلابياء من هنالك، وبشجرة ميلاد قُطعت من إنجيل، وزينةٍ لها أُعِدَّت من قلوب وفرح...

يكتب على دفتر سيجارة حمويٍّ، ولائحة قيد انتخابيَّة، وشبيَّة صلاة، وسندان كندرجي، وغبار مقلع، وبرنيطة عثملِّي، بأسلوب واحد وقلب واحد وحنين واحد وذاكرة لا ثقب فيها، لا بل مرصَّعة هي بدرر الزَّمن الجميل، قبل أن تصبح قِبلةُ النَّاس "بوتوكسًا" على شفاه هذه، و"سيليكونًا" في صدر تلك، وقبل أن تتصحَّر جبالنا، لأنَّ ثمَّة من يريد أن يعمِّر أبراجًا ومبانيَ ليُسكنَ الناس وقد ضاق قلبه بمُحبِّيه، أو يبيعَنا فحمًا نتدفَّأ عليه شتاءً، وقلبه علينا من ارتفاع سعر المحروقات، أو ننفِّخ عليها، تلك الأركيلة وثقافتِها الدَّارجة معسَّلة، بعد أن نعمرَّها ونكركر، وقد بتنا، في معظمنا، أسيادًا في الغرغرة ولَتِّ الكلام وعجن التَّفاهات.

هذه  هي حاله في كتبه التي تتبدل عناوينها، لكن جوهر مضمونها واحد، وقد وسَّع دساكر القرية، فجعلها ساحاتِ مدن كبيرة، وأعلى شجر الروح في اللقاءات، لتتظلَّلها النفوس والقلوب والقامات، وكتب بأصالة ذاك الجرد، قيم العالم. 

هو الموقِّع أعلاه، كأنَّه بطل قصَّة "الدَّايم دايم"، سلام عليك مارون عبود، سلام وقبلة لعين كفاع؛ كأنَّه حكاية في "حكي قرايا وحكي سرايا"، ومن اسمه تحيَّة لسلام الرَّاسي وإبل السَّقي؛ كأنَّه رضا أنيس فريحة، سمع من أبيه كثيرَ حكايات، وعاد يستظهرها في غير مكان وزمان، لأنَّها هي ما تغيَّرت، مرحًى بفيء صنوبراتك أبا رضا؛ كأنَّه قصيدةٌ في ديوان "شيخ الغيم وعكَّازُه الرِّيح"، يعبر من ضفَّة الدَّمع إلى ضفَّة البراءة، نهرًا من دعاءات أمٍّ وعرق أب... إليك كلُّ الحبِّ جوزف حرب حيث أنت في علياء عليائك.وكأنَّه عُربةٌ في صوت فيروز، وهي تغنِّي للطَّير "الطَّاير على طراف الدِّني"، وقد تشرَّفت بها دوما وشرَّفتها، حين استضافت عرش الرَّحبانيَّين ذات شريط سينمائيٍّ، وذات إبداع.

مازن عبود الصبي... الذي ضاقت بك ساحات الحنين، لا تَرُحْ إليها وتلعبْ هناك، كفاك ترتكب طفولتك والمراهقة. تعال والعب على مدخل قلوبنا، وادخلها ساعة تشاء.

كأنَّ مازن عبود كلٌّ منَّا، كأنَّنا هو جميعُه، وكأنَّ النَّموذج الذي اختاره لحكاية في ذكرياته الأنيقة حقيقةٌ من لحم ودم، قبضنا عليها بكلتا العينين وبكلا الروح والمعرفة، ذات يوم، كلٌّ في قريته أو مدينته، فرأيناها ولمسناها وحادثناها وسمعناها، حتَّى إذا خرجت من ذاكرة صبيِّ المحلة، بدت أحلى وأشهى وأعمق.

هو الموقِّع أعلاه، على جبين الصِّدق، وعلى نبض الحنين، وعلى أجنحة النفس والروح، يتنازل لنا، برضاه، عن كلِّ ما في ذاكرته، فيقاسمنا إيَّاه، قربانة كلمة لا يتناولها إلا المؤمنون بها، وقد غُطَّت بخمر معتَّق في خوابي أديرة الحبر.

مازن عبود، صَّبيٌّ مملوءُ نعمةَ ذكريات، يرفأُ بها ثوب حضورنا التَّائه بين فعل الاقتناء والرغبة في الاستهلاك وخداع المظهر، صارخ في برِّيَّة الماضي يستعيده على حصان الورق فارسًا مكلَّلًا بزيتون دوما الجليل الوقار.

مازن عبود الصبي... الذي ضاقت بك ساحات الحنين، لا تَرُحْ إليها وتلعبْ هناك، كفاك ترتكب طفولتك والمراهقة. تعال والعب على مدخل قلوبنا، وادخلها ساعة تشاء، وحين تتعب ويغلبك النعاس، خبَّأنا لك فيها وسادة من تفَّاح تنورين، وغطاءً من قرميد دوما، وبخورًا وشمعًا من دير البلمند، وفراشًا من نبض وطُمأنينة وسنابلِ فرح. فاستغرق في نومك، حانَ موسم قِطاف الأحلام والدَّهشات.

تكبر عائلة الصبي... لكنه يبقى صبيَّ محلة، تدور عليه أمكنة وأزمنة، تدور عليه القصص، ولا يتعب.