أرخت الأزمة المالية التي عصفت بلبنان منذ 4 أعوام ونيّف بثقلها على الاقتصاد اللبناني وعلى المستوى المعيشي للمُقيمين. يكفي النظر إلى أرقام البنك الدولي لمعرفة مدى فظاعة التراجع في حجم الاقتصاد إذ انخفض من 52 مليار دولار أميركي في العام 2019 إلى أقلّ من 18 مليارًا في العام 2023 بحسب أرقام البنك الدولي، أي بنسبة 65 بالمئة (أنظر الرسم البياني الرقم 1). ويُمثّل الناتج المحلّي الإجمالي مدخول الدولة (قطاع عام + قطاع خاص) السنوي، وهو ما يعني أنّ الشعب اللبناني خسر 65 بالمئة من مدخوله خلال أربعة أعوام فقط.

رسم 1: الناتج المحلّي الإجمالي اللبناني منذ العام 2002 إلى العام 2023 (الوحدة: مليار د. أ. | المصدر: البنك الدولي)

بالطبع، لهذه الخسارة تداعيات على كلّ الأصعدة:

- اقتصاديًا: انخفاض القدرة الشرائية ومعها القدرة على الاستهلاك والاستثمار وهما عمودا النمو الاقتصادي.

- ماليًا: تراجع مداخيل الحكومة الناتجة من الضرائب على النشاط الاقتصادي (كقيمة فعلية).

- نقديًا: ضرب العملة الوطنية بحكم العلاقة الوطيدة بين النمو الاقتصادي وقيمة العملة.

- خدماتيًا: تراجع خدمات الدولة كنتيجة حتمية لتراجع المالية العامّة.

- صحيًا: تردّي الوضع الصحي للمواطن الذي لا يستطيع تأمين كلفة طبابته واستشفائه.

- تربويًا: تردّي الوضع التربوي كنتيجة لتراجع قدرة المواطن على دفع الأقساط في المدارس الخاصة وعدم قدرة الحكومة على تمويل القطاع الرسمي.

- ثقافيًا: انهماك المواطن بتأمين لقمة عيشه، وضعف قدراته المالية، وضعف الموارد المالية لتمويل النشاطات الفكرية والثقافية، هذه كلها تؤدي إلى تراجع تثقيف الأجيال.

علمًا أن فقدان الثقة في القطاع المصرفي، ورغبة العديد من اللاعبين الاقتصاديين (مستهلك وشركات) في التهرّب الضريبي، والتغطية أحيانًا على بعض الأنشطة غير القانونية، جعلا اقتصاد الكاش يتفشّى بشكلٍ كبير خصوصًا في الأعوام 2022 و2023 و2024، وهو ما دفع المؤسسات الدوّلية إلى دقّ ناقوس الخطر منبّهةً إلى شبهات قد تشمل النشاط الاقتصادي المموّل قسم منه من الكاش (البنك الدولي قدّر هذا النشاط بنحو 55 بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي). وعلى الرغم من تفشّي اقتصاد الكاش بهذه النسبة الكبيرة، بقي قسم مُهم من الناتج المحلّي الإجمالي مُموّلًا من نشاط اقتصادي رسمي وشرعي، أي مُساهمة المُغتربين اللبنانيين.

يُساهم المُغتربون في الاقتصاد اللبناني من بابين أساسيين: الأول تحاويل المُغتربين والثاني سياحة المُغتربين.

على صعيد تحاويل المُغتربين اللبنانيين: حافظ حجم هذه التحاويل على مُعدّل بلغ نحو الـ 6.5 مليار دولار سنويًا، وذلك منذ العام 2008. هذه الأموال كانت تمرّ عبر القطاع المصرفي قبل العام 2020، لكنّها سلكت طرقًا أخرى بعد العام 2019 (شركات تحويل الأموال، باليد عبر مسافرين، وعبر خدمات أخرى). وقد أُنفقت بالدرجة الأولى على معيشة الأقارب المُقيمين في لبنان، وتُشكّل حتى الساعة المدّخل شبه الوحيد للكثير من العائلات.

الرسم البياني الرقم 2، يُظهر قيمة تحاويل المُغتربين من العام 2002 إلى العام 2023، بحسب أرقام البنك الدولي.

على صعيد سياحة المغتربين اللبنانيين الذين يزورون وطنهم الأم بهدف لقاء الأقارب وتمضية العطل في ربوعه. فقد بلغت مساهمتهم نحو سبعة مليارات دولار أميركي حتى العام 2019، ثم انخفضت في العام 2020 و2021 بحكم جائحة كورونا وما خلّفته من قيود على حركة السفر. ومنذ العام 2022 عادت سياحة المُغتربين إلى الارتفاع حتى بلغت 5.4 مليار دولار في العام 2023. ومُتوقّع أن تُحقّق المقدار نفسه هذا العام. ومن الممكن أن تكون أكبر لولا الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب.

وبحساب يسير، نرى أنّ نسبة مُساهمة المُغتربين في الاقتصاد اللبناني تخطّت الخمسين بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي، وهي الأعلى عالميًا. ويُمكن الاستنتاج من ذلك أنّ لبنان لم يكن يوماً معتمداً إلى هذا الحدّ على المغتربين الذين ساهموا ويُساهمون بشكّلٍ فعّال في حركته الاقتصادية. لا بل أكثر من ذلك، يُمكن الجزم أنّه لولا هذه المساهمة لكان لبنان، اليوم (خصوصًا بعد اندلاع الأزمة) في حالٍ يُرثى لها على كل الأصعدة.


رسم 2: قيمة تحاويل المُغتربين اللبنانيين منذ العام 2002 إلى العام 2023 بحسب أرقام البنك الدولي

في المُقابل، تتقاعس السلطات عن القيام بخطوات تجاه المُغتربين كردّ جميل لما يقوم به هؤلاء. وتتضمّن هذه الخطوات على سبيل الذكر لا الحصر: المُحافظة على ودائع المُغتربين في المصارف اللبنانية (فيما كل طروحات الحكومة تتضمّن اقتطاعاً من الودائع)، وتسهيل الخدمات المتصلة بهم، وإشراكهم في القرار السياسي، أقلّه من باب توسعة مُشاركتهم في الانتخابات النيابية...

عمليًا، لا يشمل الاهتمام فقط ردّ الجميل للمغتربين، بل أيضَا قدرتهم على المُساهمة في إخراج لبنان من أزمته التي يتخبّط فيها منذ أربعة أعوام ونيّف. فلديهم قدّرة مالية عالية كفيلة بإعفاء لبنان من الاقتراض من المؤسسات الدولية، إذ يكفي مُقارنة مُساهمتهم السنوية في الاقتصاد بحجم الاقتراض المُمكن من صندوق النقد الدولي لمعرفة أنّ للبنان مصلحة في التوجّه نحو المُغتربين أكثر منه نحو أيّ دولة أو مؤسسة أخرى.

لماذا لا يُعطى المُغتربون اللبنانيون إمكانية التصويت لكلّ مُمثّلي الأمّة في المجلس النيابي، إذ يزيد هذا ثقتهم بأهمية مشاركتهم في القرار السياسي؟ ولماذا لا يتمّ اختيار شخصيات منهم لتسلّم مراكز حيوية مثلًا، وتعيينهم أعضاء في الهيئات الناظمة، أو سفراء اقتصاديين لجذب الاستثمارات اللبنانية (المُغتربة) والأجنبية؟ ولماذا لا يتمّ إشراكهم في حلّ أزمة القطاع المصرفي؟ ولماذا لا يُطلب منهم تمويل مكننة الدولة اللبنانية لمحاربة الفساد؟

هذه كلّها أسئلة منطقية تفرض نفسها، وتدلّ على أنّ حلّ الأزمة قد يكون أسهل بإشراك من ساهم بشكلٍ فعّال في مواجهة هذه الأزمة، ومن له القدرة على إخراج لبنان منها.