حين يكون الاحتقان الشعبي النّاجم عن تشنّج سياسي أو عن فائض قوّة من هنا، وشعور بخطر وجودي من هناك، في أوجه، يصبح أيّ حادث فردي مشروع اشتباك جماعي بين المكوّنات المجتمعية في لبنان. هذا ما شهدته منطقة برج حمود جراء حادثين فرديين منفصلين في 12 و13 تموز 2024.

الحادث الأول الذي وقع مساء الجمعة ناجم عن صدم شاب شيعي لآخر أرمني وأعقبه تعارك بالأيدي. فما كان من الأول إلّا أن استقدم عشرات المسلّحين بالإضافة إلى دراجات نارية من خارج المنطقة، وحاول هؤلاء "اقتحام نادي "نيكول تومان" التابع إلى حزب الطاشناق في المحلّة، والاعتداء على كنيسة السيدة للأرمن الأرثوذكس، على بعد أمتار معدودة من مخفر قوى الأمن الداخلي. كما أطلق هؤلاء النار، ورددوا شتائم وشعارات تثير النعرات الطائفية" وفق بيان صادر عن "الطاشناق" الذي حذّر أيضاً من أنه "لا يمكن التغاضي عن محاولات إثارة النعرات الطائفية في هذه الظروف الحساسة، كما لا يمكن الأهالي تحمّل العراضات والمظاهر المسلّحة والاعتداء على الحرمات والمقدّسات إلى ما لا نهاية". شهد المكان استنفاراً مسلّحاً وانتشاراً للطرفين. هذه المشهدية بين "أبناء الخندق الواحد" في محور الممانعة (ومن المعروف تحالف "الطاشناق" الثابت مع الرئيس نبيه بري) انتهت عبر الانسحاب التدريجي لعناصر الطرفين مع تقدم ساعات الليل واتصالات التهدئة.

الحادث الثاني وقع السبت بين جارين لبنانيين أحدهما من أصول أرمنية والآخر شيعي (عائلتاهما على صداقة) في شارع مرعش حيث تطور تلاسنهما إلى تبادل لإطلاق النّار وسقوط جرحى توفي منهم الشاب ربيع الدغلاوي لاحقاً.

إنّه الاحتقان الشعبي الناجم عن تشنّج سياسي تعيشه جميع المكوّنات في البلاد وعن فائض قوة - ترجم بصيحات "شيعة شيعة" ظهرت عبر الأشرطة المصورة لإشكال اليوم الأول ورافقتها شتائم طائفية مع الادعاء أنّ "المنطقة للشيعة" - وعن شعور بخطر وجودي يساور الأرمن من ضمن المكوّن المسيحي، هو ما حوّل إشكالاً فردياً الى اشتباك جماعي، هو، اليوم، طابع أرمني V/S شيعي، وأمس لبناني V/S سوري، وقبله لبناني V/S كردي أو قواتي V/S "حزب اللهي".

هذا الاحتقان أخذ زخماً إضافياً في ذكرى عاشوراء عبر ممارسات عناصر "الثنائي الشيعي" الاستفزازية، أكان عبر إقامة الحواجز وقطع الطرق المحيطة بأماكن إحياء الليالي العاشورائية على الأهالي من سكان المباني المجاورة أو عبر رفع الرايات العاشورائية بشكل استفزازي من دون الأخذ في الاعتبار خصوصية بعض الأمكنة الدينية المسيحية. حتى أنّ هذه الممارسات، أدّت إلى الإشكالُ الذي وقَع مساء 13 الشهر الجاري وتخلّله إطلاق نار بين أبناء البيئة الواحدة في محلّة حي معوض في الضاحية الجنوبية، وأسفر عن مقتل المسؤول الأمني في "حزب الله" أبو سمرا قباني.

بعدما كان "الطاشناق" الآمر الناهي في برج حمود والممسك بأمنها، لم يعد يسيطر إلّا على شارع أرمينيا

لطالما شكّلت برج حمود برج "الطاشناق" الحصين، خصوصاً بعد العام 1958. في الأساس تعود التسمية إلى حوالى 300 سنة مضت إذ كان الأمير حمود إرسلان يملك مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في المنطقة، فبنى في أعلى نقطة فيها منزلاً مؤلّفاً من طبقتين فوقهما علّية، وكان يصعد إلى سطحها لمراقبة العمال الموجودين في أملاكه. فشكّل هذا المنزل العالي برجاً بالنسبة إلى المنازل الزراعية المتواضعة المجاورة. وعليه، أخذت المنطقة تسمية "برج حمود".

أمّا تسمية "برج الطاشناق" فتكرّست بعد ثورة 1958 التي استفاد منها الحزب المؤيّد للرئيس كميل شمعون لفرض سيطرته على المنطقة التي كانت تشهد تعدّدية حزبية أرمنية بعدما دفع مناصري "الهنشاك" و"الرمغافار" إلى مغادرتها. بدأ ذلك بناءً على دعم عهد شمعون في ظلّ الحرب الباردة لتكريس رئيس الأساقفة زاريه باياسليان كاثوليكوس لبيت كيليكيا عام 1956 بعدما كان الكرسي شاغراً مدّة 4 سنوات، على الرّغم من معارضة كاثوليكوس إشميادزين في أرمينيا ڤازگن الأول الذي رفض الاعتراف بسلطته، لاختيار زاريه الأول حزبياً من قبل "الطاشناق". وخلال ثورة 1958، اندلع نزاع مسلّح بين "الطاشناق" المؤيد لزاريه الأول ومعارضيه "الهنشاك" و"الرمغافار" اللذين دعما مواقف ڤازگن الأول وانتهى بفرض "الطاشناق" سيطرته.

كما أنّ حادثة أخرى عزّزت حضور "الطاشناق" في المنطقة تمثّلت في هجرة مناصرين لـ"الهنشاك" و"الرمغافار" ومجموعات من خارج مناصري "الطاشناق" بين عامي 1946 و1948 إلى جمهورية أرمينيا السوفياتية لرفع عدد سكانها بعدما قرّر الاتحاد السوفياتي دمج أيّ جمهورية لا تضمّ عدداً محدّداً من السكان بجمهورية أخرى. لذا شهد لبنان وسوريا والعراق ومصر وفلسطين هجرات منظّمة لتأمين انتقال مئات الآلاف المتحدّرين من أصل أرمني من أجل رفع عدد السكّان كي يبلغ العتبة المطلوبة.

اليوم، وبعدما كان "الطاشناق" الآمر الناهي في برج حمود والممسك بأمنها، لم يعد يسيطر إلّا على شارع أرمينيا، أو ما يعرف بشارع الذهب الممتد من محلّة النهر إلى الدورة، بحسب العارفين. يُؤخذ عليه أنّه فشل عبر البلدية التي تؤيّده في:

* منع بيع المحال والشقق والعقارات الأرمنية أو تأجيرها إلى غير الأرمن كما فعلت بلدية الحدت مع أبنائها على سبيل المثال.

* الفشل في تنظيم الوجود السوري المتعاظم، خصوصاً بعد التدفّق السكاني عقب الحرب عام 2011.

* الفشل في تنظيم الوجود غير اللبناني في المنطقة التي تحوّلت وكراً لمن لا يملكون أوراق إقامة شرعية.

إلّا أنّ أزمة "الطاشناق" أبعد بكثير من هذه الإشكالات وتتخطّى فقدانه السيطرة على برج حمود إلى أزمة وجودية مرتبطة بالدور والتموضع السياسي وكيفية الترويج للقضية. فبعد مرور قرن وعقد من الزمن على الإبادة الأرمنية ووصول قوافل من الناجين إلى لبنان، ثمة تحدّيات عدة تواجه "الطاشناق":

* سقوط "الغتويات الأرمنية" الصرف وانفلاش الأرمن داخل النسيج اللبناني.

* ارتفاع الزيجات المختلطة بين الأرمن و "ولاد العرب".

* تراجع نسبة متقني اللغة الأرمنية حتّى لدى الأرمن الأرثوذكس، بعدما كان الأمر مقتصراً على الأرمن الكاثوليك كون هجرتهم إلى لبنان أقدم من المجازر.

* اندماج الأجيال الأرمنية الجديدة في الحياة اللبنانية وشؤونها وشجونها، فمع عامل الوقت تميل الدفّة إلى التزام المرء البيئة التي يعيش فيها وينعكس واقعها على حياته اليومية أكثر من بيئته الوجدانية والتاريخية.

* هجرة الأرمن، كما سائر أبناء المكونات الأخرى، إلّا إنّ اندماجهم في الخارج أسهل في ظل الـDiaspora الأرمنية الناشطة والمنظمة عبر دول العالم كافة.

* ارتفاع نظرية في صفوف الـ Diaspora الأرمينية، خصوصاً غير الملتزمة بالحزب، تقول ما جدوى دعم الوجود الأرمني في لبنان وسوريا وسائر بلدان الشرق الأوسط وتكبّد الأموال، فيما لا دور مؤثراً لهذه البلدان في القرار الدولي؟ أليس الأجدى تعزيز الوجود في الدول المؤثرة وعواصم القرار؟ وهذا بدأ ينعكس على الدعم المادي الذي يؤمنونه للبنانيين الأرمن.

* الأزمات المستدامة في لبنان، وآخرها الانهيار القائم. وهذا ما دفع بالكثير من اللبنانيين من أصل أرمني الى استعادة الجنسية الأرمنية والعودة إلى الإقامة في الوطن الأم.

* ترنّح القضية الأرمنية، خصوصاً مع الصفعة التي تلقتها بسقوط "أرتساخ" وسيطرة الآذريين على ناغورنو كاراباخ.

* منحى "الفردنة" الذي يتقدم في كلّ أنحاء العالم على حساب الالتزامات بالجماعة ضمن معادلة individualism V/S collectivism.

عدا هذه التحديات المترافقة على الصعيد الداخلي للحزب مع علامات الاستفهام حول تأثير الفرع الإيراني للحزب على قرارات القيادة عالمياً، ومع تداعيات الانقسام الداخلي بشأن الموقف من رئيس الحكومة الأرمني نيكول باشينيان بين القيادة المركزية المعارضة له وقيادة الولايات المتحدة المؤيدة له، زاد نهج "الطاشناق" منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي "طينه بلّة" عبر:

* كسره الصورة النمطية عن "حيادية الأرمن طوال الحرب عن الاصطفافات ومجاراتهم الإجماع المسيحي" عبر اصطفافه منذ ما بعد الطائف في المقلب السوري. فـ"الطاشناق" شارك في الانتخابات النيابية عام 1992 ولم يلتزم المقاطعة المسيحية خلافاً لحزبي "الهنشاك" و"الرمغافار".

* لم يكن في الفلك السيادي المسيحي الذي تجسّد في "لقاء قرنة شهوان"، ولا في الفلك الوطني الذي تمثّل لاحقاً في "لقاء البريستول" ثم في "14 آذار" و"ثورة الأرز".

* منذ العام 2005 حتّى اليوم، لا تحالف سياسياً يعلو لدى "الطاشناق" على تحالفه مع الرئيس نبيه بري ومحور الممانعة". خير دليل على ذلك اصطفافاته في اللحظات المفصلية إلى جانب عين التينة رغم انضوائه في تكتّل الرابية النيابي. فمشاركته في تكتل "التيار الوطني الحر" ليست إلّا من ضمن توجّه "الثنائي الشيعي" لنفخ حجم "التيار" مسيحياً. تموضعه في محور الممانعة لم ينتج سوى تراجع حجم تمثيله النيابي، ولم يوفّر الحماية للأرمن من فائض القوّة وعنجهية السلاح التي يمارسها "الثنائي الشيعي" بدليل الـ"شيعة شيعة" في برج حمود.

كلّ ما جاء أعلاه يترجم عبر تراجع جلي في صناديق الاقتراع. ففي العام 2018، حصد الأمين العام للحزب النائب أغوب بقرادونيان 7182 صوتاً في المتن في حين أنه في العام 2022 حصد 4973 صوتاً، متراجعاً بنسبة 31%. وفي زحلة، حصدت مرشحة "الطاشناق" ماري جان بلازكجيان 3851 صوتاً في حين أن مرشحه النائب جورج بوشيكيان في العام 2022 حصد 2568 صوتاً متراجعاً بنسبة 32%. مع الاشارة إلى أنّ الأخير ترشّح منفرداً في العام 2018 وحصد 1845 صوتاً (الجدير ذكره أنّه لم يعد في عداد كتلة "الطاشناق"). أمّا في بيروت الأولى، فيكفي النّظر إلى الأصوات التي حصدها نائب الحزب هاكوب ترزيان في العام 2018 وهي 3451 صوتاً وتلك التي حصدها عام 2022 وهي 2647 صوتاً، متراجعاً 23%.

إذاً، فإنّ "الطاشناق" كلاعب رئيس في المكون الأرمني حيال أزمة وجودية جراء:

* تراجع الحضور والفاعلية والتأثير لبنانياً. فعوض السعي إلى أن يكون "بيضة قبان" مسيحياً ووطنياً، ما زال متمسّكاً بتموضعه في محور الممانعة منذ الزمن السوري مطلع التسعينيات إلى اليوم. لذا نلاحظ أنّ الحزب شبه غائب عن خريطة الموفدين الدوليين وغير مبادر محلياً لتقديم أي طروحات للخروج من الأزمات القائمة وكسر الجمود السياسي.

* عدم قدرته على جذب الأجيال الجديدة في المكون اللبناني الأرميني من خلال مقاربته قضية الإبادة الأرمنية وقضية ناغورنو كاراباخ بشكل تقليدي من جهة، ومن جهة أخرى، عدم مقاربة المسائل اللبنانية من منظور الشباب الأرمينيين أبناء البيئة المسيحية الذين نشأ وجدانهم على عدد من الثوابت، في طليعتها أنّ أرمينيا أول دولة اعتنقت المسيحية في التاريخ في العام 301.