وُلد الاقتصاد السياسي الحديث مع طرح مُشكلة ثروة الأمم وثرائها وأسبابها وطبيعتها، وذلك بهدف البحث في المشكلات الهيكلية التي تواجه المُجتمعات، كالفقر وغيره. ونظرة الاقتصاد السياسي إلى مُشكلة الديموقراطية هي نظرة تعود إلى أوائل القرن الماضي إذ انتقد جوزف شومبيتر، وهو أبو الاقتصاد السياسي الحديث (بالمعنى الدقيق للكلمة)، النهج المعياري التقليدي الذي يعتبر أنّ الديمقراطية هي “الأسلوب المؤسسي لاتخاذ القرارات السياسية التي تحقّق الصالح العام من خلال تكليف الناس أنفسهم ترجيح كفة الميزان عن طريق انتخاب الأفراد الذين يجتمعون بعد ذلك لتحقيق إرادتهم".

يقول شومبيتر إنّ فكرة الصالح العام التي من المفترض أن يدافع عنها الذين هم في السلطة، لا معنى لها، لأنّ هناك تضارباً في المصالح في الديمقراطيات الحقيقية: "ليس هنالك كيان يتكوّن من خير مشترك محدّد بشكل فريد يمكن جميع الناس أن يتفقوا عليه بشكل تلقائي أو يمكنهم أن يتفقوا عليه من خلال القوّة المقنعة للحجج العقلانية. وعلى افتراض أنّه يمكن المرء تعريف الرفاهية الجماعية بشكل عام، فإنّ تعريفها الملموس والدقيق أمر مستحيل".

حتّى أن شومبيتر شكّك في معنى مُصطلح الإرادة العامة (volonté générale) إذ اعتبر أنّ فكرة الإرادة العامّة لا معنى لها في ذاتها من منطلق أنّه حتى لو قبلنا فكرة أن أيّ إرادة مشتركة (أو أي رأي عام) تنبثق من خليط معقّد جدّاً من المواقف والإرادات والتأثيرات والأفعال وردود الفعل، فردية كانت أو جماعية، وتُشكل جزءًا من العملية الديمقراطية، فإنّ النتيجة لن تكون مثالية لخلوّها من أيّ وحدة عقلانية، وأيضًا من أيّ عقوبة عقلانية. هذا الأمر نابع من أنّ قرارات الناخبين في الواقع ليست عقلانية كما يُفترض بها أن تكون، ولا تأتي من إرادة واضحة ومستنيرة بشكل صحيح.

يطرح شومبيتر نهجًا آخر ينصّ على أنّ "الطريقة الديمقراطية هي النظام المؤسسي الذي يؤدّي إلى قرارات سياسية، إذ يكتسب الأفراد سلطة الحكم على هذه القرارات في نهاية صراع تنافسي من أجل أصوات الناخبين". وبالتالي، يتحوّل الرجل السياسي إلى رائد أعمال لا يسعى إلى الربح النقدي بل إلى الربح السياسي الذي يتكوّن من السلطة. وعليه، تصبح "السوق السياسية" مجالًا للمنافسة بين رجال الأعمال السياسيين الذين يسعون إلى إقناع الناخبين بمشروعهم.

جمع الباحث أنتوني داونز التحليل السياسي والتحليل الاقتصادي واستلهم بشكل مباشر من شومبيتر مستخدماً أدوات الاقتصاد الجزئي، واحتفظ بفرضية العقلانية وعدم "إيثارة" الناخب. وبالتالي، استطاع توسعة تحليل السوق التنافسية ليس للسياسيين والناخبين فحسب، بل أيضاً لجميع أصحاب المصلحة في اللعبة السياسية. وبذلك أصبح داونز مؤسس ما يسمّى النهج "الانتهازي"، فالسياسيون يتصرفون وفقاً لهدف خاص، هو تعظيم عدد الأصوات لمصلحتهم (أو الحصول على الدخل والهيبة والسلطة). كما أنّ الأحزاب تحدّد الخيارات السياسية بهدف الفوز في الانتخابات، ولا تفوز في الانتخابات بهدف تثبيت الخيارات السياسية.

وبحسب داونز، يصوّت الناخبون العقلانيون لمصلحة الشخص الذي يحقق لهم مصلحتهم إلى الحدّ الأقصى، والذي يوفّر لهم أكبر قدر من الفوائد. وبتعبير أدقّ، يصوّت الناخب للحزب الذي يتوقّع منه دخلاً منفعياً أعلى من الأحزاب الأخرى. في بلد معين، يتخذ الحزب السياسي خياراته لمصلحة غالبية الناخبين، وإلّا فإنّ المعارضة ستتبنى وجهة نظر الغالبية وتضمن الفوز في الانتخابات التالية. وهكذا يستنتج داونز: "بما أنّ الحكومات تخطّط لعملها من أجل إرضاء الناخبين، ويقرّر الناخبون كيفية تصويتهم بناءً على عمل الحكومة، فإنّ علاقة الترابط المتبادل تكمن وراء عمل الحكومة في الأنظمة الديمقراطية". ومن استنتاجاته أيضاً أنّ قاعدة الغالبية المطلقة لا تنطبق دائمًا إذ إنّه في نظام متعدّد الأحزاب، "عندما لا تكون الخيارات واضحة المعالم أو عندما تتمكّن المعارضة من جمع معارضة قوية، تصبح اللعبة معقّدة".

يقوم مبدأ الممارسات السياسية في لبنان على اللعب على عواطف الناخبين للأحزاب (من الطائفة نفسها) وذلك من خلال إثارة الغرائز...

إنّ منهجية الاقتصاد الإيجابي التي اقترحها شومبيتر تسمح بالتركيز على الأداء الحقيقي للأنظمة السياسية، وعلى عملية صنع القرار والاختيار (المُعقّدة بطبيعتها). على هذا الصعيد، يُحذّر البحث "كنوت ويكسل" من خطر "دكتاتورية الغالبية" المتمثّلة في نظام صنع القرار الديمقراطي بعد حكم الغالبية إذ يمكن 51٪ أن يقرّروا استعباد الـ 49٪ المتبقية. ومن ثم تُطرح مشكلة حقوق الأقلّيات من دون حلّ سياسي في حالة بسيطة تتمثل في قرار الغالبية. وعندما يتعلّق الأمر بالإنفاق العام، يرى ويكسل أنّ المكاسب الجماعية المرتبطة بإنتاج منفعة عامة أكبر من تكاليف الإنتاج (وإلا فلا استمرار لهذه المنفعة)، وهناك دائمًا التوزيع المحتمل لهذه التكاليف، والذي يحظى بالإجماع، إذ يُفترض أنّ أيّ نشاط مُخطّط للدولة هو ذو منفعة عامّة يجب القبول به طوعاً لضمان عدم الظلم في توزيع الضرائب. في هذا السياق، يُحذّر نموذج "توازن ليندال" من أن "يقترح صانع القرار نظامًا ضريبيًا ليُعيّن بعده تحديد الكمّية التي يطلبها المستهلكون من السلع العامة". بشكل عام، يقترح ويكسل ثلاث قواعد ديمقراطية: تطبيق مبدأ شبه الإجماع، وفرض تصويت بغالبية عالية مؤهلة لتجنب البازارات التي لا نهاية لها، والتي تنطوي عليها قاعدة الإجماع، وربط النقاش بشأن الإنفاق بالنقاش حول طريقة التمويل. ويعرض للتصويت جميع خطط التمويل الممكنة للإنفاق العام.

بالطبع لبنان والأداء السياسي بعيدان كلّ البعد عن هذه الممارسات العلمية التي يُمكن رؤية تطبيقها في الدول المُتقدّمة كما هي الحال حديثًا في بريطانيا، إذ يقوم مبدأ الممارسات السياسية في لبنان على اللعب على عواطف الناخبين للأحزاب (من الطائفة نفسها) وذلك من خلال إثارة الغرائز. من هنا نرى أنّ هناك تصادمًا كبيرًا بين القوى السياسية التي تعجز عن فصل اللعبة السياسية عن اللعبة الاقتصادية ويُصبح كلّ إجراء اقتصادي رهينة اللعبة السياسية مع كلّ التعقيدات التي تشملها نتيجة لاوعي الناخب خطورة فرض الرأي على الآخر.

من هذا المُنطلق، يُمكن الجزم بأنّ لبنان لن يرى استدامة لرفاهية اقتصادية، ما دام الأداء السياسي لا يحتكم إلى العلم والمصلحة العامّة كما ارتأى آباء الاقتصاد السياسي.