اختصر سياسي مطلع مشهد اللقاء الأخير الذي عُقد في باريس بين الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين ونظيره الفرنسي جان ايف لو دريان بالقول إنّ هذا اللقاء شكّل مناسبة لـ"تبادل الوداع" بينهما. فالأول انتهت مهمّته، أو على الأقل، دخلت في خريفها في ظلّ تراجع حظوظ رئيسه جو بايدن الرئاسية أمام منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب، وإن كانت هناك مؤشّرات على احتمال سحبهما من السباق الرئاسي لمصلحة مرشحين جديدين، أو على الأقل، احتمال إقدام الحزب الديموقراطي على استبدال مرشّح آخر ببايدن، قد يكون حاكم ولاية لكاليفورنيا غافين نيوسوم أو نائبة الرئيس الحالية كامالا هاريس، لما أظهره من "ضعف وعدم أهلية" في المناظرة الأخيرة بينه وبين ترامب.

ولكنْ لا يزال هناك احتمال لعودة هوكستين إلى لبنان في حال التوصل إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار في غزّة في ضوء المفاوضات الجارية وما يشاع من معلومات وأجواء متفائلة في هذا الصدد. ولكن لا أحد يجزم بإمكان حصول هذا الاتفاق قبيل سفر رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى واشنطن لإلقاء خطاب أمام الكونغرس الأميركي في 24 من الشهر الجاري أو بعده. فهوكستين كان أكد في خلال زيارته الأخيرة للبنان أنّه لا يمكن الشروع في تنفيذ القرار الدولي 1701 في الجنوب لإنهاء النزاع الدائر بين المقاومة وإسرائيل إلّا إذا توقّف إطلاق النار في غزّة. والواقع أنّه إذا لم يحصل هذا الاتفاق تكون مهمّة هوكستين قد انتهت حتماً، خصوصاً إذا لم يفز رئيسه بايدن بولاية رئاسية ثانية، وبالتالي يكون وداعه الأخير لنظيره الفرنسي نهائياً.

أمّا لودريان فقد كان أنهى "بلا وداع" مهمّته في زيارته الأخيرة لبيروت بعدما منيت بفشل ذريع

أمّا لودريان فقد كان أنهى "بلا وداع" مهمّته في زيارته الأخيرة لبيروت بعدما منيت بفشل ذريع، وجاءت الانتخابات الفرنسية لتظهر ضعف رئيسه ايمانويل ماكرون الذي بات في مواجهة اليمين الفرنسي بعد تقدّم اليمين في انتخابات الاتحاد الأوروبي الأخيرة، وقد أصبح أشبه بـ" رئيس تصريف أعمال" خلال ما تبقّى من ولايته الرئاسية، وهذا سينعكس سلباً على الدور الفرنسي عالمياً.

وثمّة من قال إنّ لودريان لربما يعود إلى لبنان مجدداً في حالة واحدة هي أن تعاود المجموعة الخماسية العربية والدولية اتصالاتها مع الفرقاء اللبنانيين، وقد تردّد في بعض الأوساط اللبنانية كلام عن احتمال أن تقدم على خطوة من هذا النوع خلال الأسبوع الجاري. لكن لا مؤشّرات، بعدُ، إلى ذلك، في الوقت الذي ذهب أحد النواب البارزين إلى توقع استمرار الفراغ الرئاسي إلى السنة المقبلة.

واشنطن وباريس

ويكشف قطب نيابي بارز أن لودريان وهوكستين ناقشا خلال لقائهما الباريسي التطورات في لبنان، من زاوية ما آل اليه مصير مهمّة كلّ منهما فيه من فشل هنا (كحال الأول) أو تعثّر هناك (كحال الثاني)، ولكن درجت العادة في تعاطي واشنطن وباريس مع الشأن اللبناني، وتحديداً منذ فجر الاستحقاق الرئاسي، أنّ باريس ترغب من واشنطن أن تأخذ في الاعتبار مصالحها التاريخية في لبنان، وأن تترك لها هامشاً مقبولاً في التعاطي مع بعض القضايا اللبنانية على نحو يليق بتلك المصالح ويعزّزها، ومن هذه القضايا يصادف الآن استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية، وقد تجاوبت واشنطن ولا تزال مع هذه الرغبة الفرنسية، لكن في حدود معينة، فأيّدت، بداية، مبادرتها الرئاسية الأولى قبل أن يسقطها اعتراض بعض الفرقاء السياسيين الحلفاء لواشنطن، ثم أيّدت كذلك ما تلاها من مبادرات داخلية و"خماسية عربية ـ دولية". ولكن عندما وصلت هذه المبادرات إلى مرحلة احتمال الحسم فيها كان التدخل الأميركي في لحظة ما، ليس لتعطيل الاستحقاق الرئاسي وإدامة الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية، وإنّما لأنّها ترى أنّ توقيت إنجازه "لم يحن بعد"، خصوصاً بعد عملية "طوفان الأقصى" التي تلتها الحرب على قطاع غزة وجنوب لبنان، إذ بات هناك ربط واقعي بين إنهاء هذه الحرب وبين انتخاب رئيس للبنان، وصار الجميع تقريباً، وفي لبنان على الأقلّ، يقولون إنّ هذا الاستحقاق لن يُنجز إلّا إذا توقفت الحرب على غزة، ومن ثم على جبهة لبنان الجنوبية.

على أنّ المقابل الذي تنتظره واشنطن من فرنسا لقاء مراعاتها المصالح الفرنسية التاريخية في لبنان، هو أن تؤيّد المواقف والمبادرات الأميركية إزاء أزمات المنطقة بكلّ أنواعها، ويبدو هذا التأييد الفرنسي واضحاً في أمكنة كثيرة، أبرزها التطابق مع الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، وكذلك التطابق إزاء قضايا أخرى في المنطقة والعالم تتصل بالمصالح الأميركية وما يتشعب منها من مصالح لفرنسا وبقية الدول الغربية. وثمّة من قال إنّه لا يمكن التكهن أو تحديد ما سيكون عليه وضع ماكرون ومستقبله السياسي قبل ولادة الحكومة الفرنسية الجديدة التي ستنبثق من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، إذ إنّ ما ستكون عليه تركيبة هذه الحكومة ستعكس مدى قوة ماكرون في السلطة من عدمها. في ظلّ ترجيحات تشير إلى أنّ الرجل لن يكون "حرّ التصرف" وإنّما سيكون محكوماً بعقد تسويات مع الفريق اليميني حتى يتمكّن من إكمال ولايته في الرئاسة الفرنسية بأقلّ خسائر ممكنة.

والبعض يقول إنّ ماكرون أخطأ عندما حلّ البرلمان الذي كان يملك تأييد الأكثرية فيه، ودعا إلى انتخابات جديدة، وذلك على أثر فوز اليمين في انتخابات البرلمان الأوروبي. وقال أحد السياسيين العارفين بالشأن الفرنسي إنّ ماكرون ارتكب بهذه الخطوة الخطأ نفسه الذي كان ارتكبه الرئيس الراحل جاك شيراك، الذي كان هو الآخر يملك الأكثرية في البرلمان واتخذ قراراً بحلّه، فجاءت نتيجة الانتخابات الجديدة في غير مصلحته، الأمر الذي أضعف قراره على مستوى السلطة الفرنسية، وأدى إلى تراجع الدور الفرنسي على الساحة الدولية بحيث تحولت السنوات الأخيرة من عهده سنوات تصريف أعمال لم تحقّق خلالها فرنسا وديبلوماسيتها أي إنجازات أو مصالح تذكر على الصعيد العالمي.

على أنّه لا ينبغي إهمال نتائج انتخابات مجلس العموم البريطاني الذي فاز فيها حزب العمال ملحقاً خسارة كبيرة بحزب المحافظين، وهذا ما دفع رئيسه إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب وكذلك من رئاسة الحكومة البريطانية.

ويقول المتابعون إنّ العالم يستعدّ تباعاً لاستقبال أوروبا في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية والبريطانية معطوفة على نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة وهذه "الأوروبا الجديدة" ستلاقي هي والعالم كلّه أميركا الجديدة عندما سيعود رئيسها السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجدّداً كما هو مرجّح حتّى الآن، إذ سيكون لعودته هذه إذا حصلت، انعكاساتها على أوروبا والعالم عموماً.

وجهان لعملة واحدة اسمها إيران

وإلى ذلك، فإنّ لبنان والعالم سيكونان أمام إيران جديدة بعد فوز المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان على منافسه المحافظ سعيد جليلي. ‏وفي هذا المجال، يقول ديبلوماسيون مطّلعون على الشأن الإيراني أنّ تولّي الإصلاحيين الرئاسة الإيرانية لن يغيّر في سياسات إيران الإقليمية والدولية. فخلافاً للاعتقاد السائد، فإنّ الإصلاحي والمحافظ في إيران هما "وجهان لعملة واحدة هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، ربما يختلفان في الأسلوب لكنّهما متوافقان على مصالح إيران، وما يجب أن تكون عليه من حيث الدور والموقع الإقليمي والدولي، وكذلك من حيث الواقع الداخلي دولة ومؤسسات. ذلك أنّ الإصلاحين والمحافظين هم في النهاية "أبناء الثورة الإيرانية" وليسوا حزبين متناحرين أو متعارضين يتعاركان على السلطة.

ويضيف هؤلاء الدبلوماسيون أنّ انتخاب رئيس إصلاحي أو محافظ في إيران إنّما تمليه مصالحها في كلّ مرحلة، ويبدو أنّ هذه المرحلة تملي أن يكون الرئيس من الإصلاحيين، وهكذا كان بفوز بزشكيان، وهذا يدلّ إلى أنّ إيران ستكون في المرحلة المقبلة أكثر مرونة في معالجة قضاياها مع المجتمع الدولي ومنها الملف النووي، وربما أنّ مصلحتها في هذه المرحلة فرضت أن يكون رئيسها إصلاحياً في مواجهة ترامب الذي كان أخرج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الذي تم التوصّل إليه في العام 2015 بين إيران و مجموعة دول "الخمسة ‫+1" .

ويؤكّد هؤلاء الديبلوماسيون أنّ الموقف الإيراني من الوضع في لبنان وفي غزّة خصوصاً ومن القضية الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي عموماً، لن يتغيّر في شيء وسيستمر على ما هو، فهناك دولة عميقة في إيران هي التي تصنع سياسات إيران ومصالحها الداخلية والإقليمية والدولية، وهذه السياسات يلتزمها الإصلاحيون والمحافظون، وأيّ رئيس ينتخب من الفريقين ملزم بالسير في هذه السياسات. ولذلك لا توقّعات بحصول أي خلل في العلاقة اللبنانية ـ الإيرانية لا على مستوى الرسمي ولا على مستوى العلاقات بين إيران والفرقاء اللبنانيين ولا سيما منهم الثنائي الشيعي والأحزاب والشخصيات السياسية الحليفة لطهران وغير الحليفة. والعودة بالذاكرة إلى أيام رئاسة الإصلاحي الشيخ حسن روحاني تظهر هذا الامر بوضوح.