إنها لربما المرة الرابعة التي يركب بهاء رفيق الحريري جناح الخيال، ويحطّ في مطار بيروت، ومُراده بات معلوماً. فعلى الرغم من محاولاته الفاشلة المتكرّرة يُصرّ على إعادة التجربة نفسها، ولكن في كلّ زيارة يشكّل فريق عمل جديداً. ما هكذا تورد الإبل، ولا على هذه الشاكلة تقدّر الأمور. فماذا تحمل، اليوم، لتبيع اللبنانيين في ظلّ ما يعانون بعدما سئموا من الوعود المشروطة. وماذا يوجد، اليوم، بين أيدي أبناء الطائفة السُّنّية ليبيعوه لك؟
كم هي غير محسوبة هذه الخطوة وما سبقها، وما يمكن أن يأتي بعدها إذا أدمنت تكرار التجارب الفاشلة. إنَّ أبناء هذه الطائفة الكريمة، في مطلع تموز 2024، بغالبيتهم، ليس لديهم إلّا ما يكفيهم قوت يومهم والكثير الكثير من الكرامة. بالنّسبة إلى قوت يومهم، فهم قادرون على التبرّع به، وتجد منهم من يسحب لقمة الخبز من فمه ويهبها لمحتاج. أمّا كرامتهم فقد حرّموا عليها البيع والشراء والمقايضة، وهذا ليس قرار اليوم بل منذ زمن أبعد من بعيد، وتحديداً في اليوم الذي وُجدوا فيه على هذه البقعة الجغرافية من الأرض. فعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، دفعت هذه الطائفة الفاتورة الأكبر إبّان الربيع العربي الذي وصلت شظاياه إلى لبنان، وشُيطن أبناؤها كما لم يُشيطن أحد من قبل، وصُرفت الأموال للتغرير بهم كما لم يُصرف على أحد من قبل. ورغم ذلك كله ما تزحزحت عن ثوابتها، وما خانت أو ضلّت الطريق، بل لفظت كلّ أشكال التطرّف ومن وهنوا وباعوا كراماتهم.
ما هكذا تورد الإبل، ولا على هذه الشاكلة تقدّر الأمور...
مخطئ بهاء الحريري إذا كان يتوقّع أنّ التعاطف السياسي الذي يحظى به شقيقه سعد الدين رفيق الحريري يمكن أن يجيّره إلى حسابه الشخصي بمجرّد رضى من عاصمة من هنا، أو دعم من دولة من هناك. أو يصوّر له عقله مثلاً أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي سيخرج لاستقباله في ساحة السراي ويسأله عن الـ"look" الجديد، مستبقاً ذلك كله بكلمة "اشتقنالك". أو أنّ ضوء عين التينة القوي الذي أثار فضول سعد فسأل عن سبب قوّته، سيكون الردّ عليه على لسان بري: "هيدا ضو المستقبل! وما بين هذا وذاك، لسعد الحريري الكثير الكثير من المحبّة في قلوب أخصامه قبل حلفائه.
وعلى الرّغم من أنّ مرحلة الشيخ رفيق اتّسمت بالكثير من العطاء والمنح على المُقرّبين وحتّى على مقرّبي المقرّبين ومقرّبي مقرّبي المقرّبين، فقد ظنّ البعض منذ مطلع التسعينيات إلى يوم استشهاده أنَّ علاقة الشيخ رفيق بشعبه محكومة بلغة العطاء فقط، وأنّ يوم يتوقّف العطاء تتوقّف المحبّة والحفاوة. وبدا ذلك جلياً بعد نحو عقدين على رحيله إذ لم تنقص محبّته في القلوب قيد أنملة، لا بل على العكس بات له محبّون لم تره عيونهم أو كانوا أطفالاً يوم استُشهد. وها هي العاطفة حيال سعد الحريري لا تزال قائمة. وعلى الرّغم من الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها الرجل منذ أكثر من عقد من الزمن، والتي تلتها أزمة اقتصادية في لبنان، كان من شأنها أن تزيد النقمة على سعد الحريري، لا تزال مكانته الأولى في وجدان الأوفياء، وهم كثيرون من أقصى الجنوب المقاوم في شبعا إلى أقصى الشمال.
كذلك استطاع سعد الحريري أن يحجز لنفسه مكانة خاصة في قلوب أبناء الطائفة الشيعية عن قصد أو من غير قصد. فلو سألت أحداً منهم مَن تفضّل لرئاسة مجلس الوزراء لجاءت إجابته بديهية "سعد الحريري"، هو نفسه لا يعلم لماذا يكنّ له هذه المودة، وكذلك أبناء الطوائف الأخرى. وفي الأمس القريب، كان نائب في تكتل من أشرس معارضي الحريري على مدى سنوات طويلة يرجو منه أن يعود سريعاً إلى الحياة السياسية.
أين بهاء الحريري من ذلك كلّه؟ إنّ أبناء هذه الطائفة، طيبون إلى درجة جعلت كثيرين لا يحسنون التصرّف معهم. ولكن، لمن نسي، فهم أبناء رياض الصلح ورشيد كرامي والمفتي حسن خالد وكثيرين غيرهم لم يبخلوا بدمائهم من أجل لبنان وجميع اللبنانيين بغية قيامة وطن. وحاشا أن يقبلوا على أنفسهم أن يكونوا شيكاً يُجيّر من شخص إلى آخر، أو أن يتمّ التعامل معهم على أنّهم طارئون على هذا البلد. لقد قُلتها يوم تشييع والدك "يا أيها القوم ابتعدوا...، ولم تكن تعلم أنّهم ابتعدوا إلى الأبد.