نفّذت وكالة التصنيف الائتماني ستاندارد آند بورز محاكاة اقتصادية لخسائر الدول المجاورة للصراع القائم في غزّة، وبالتحديد مصر والأردن ولبنان. وفي تقرير نُشر مع بدء المواجهات، طرحت الوكالة ثلاثة سيناريوهات مبنية على الوقت وأتت النتائج على الشكل التالي:
السيناريو الأول: مدة الصراع تراوح بين ثلاثة أشهر وستة أشهر. وقد خلص التقرير إلى أنّ الخسائر على لبنان ستكون 500 مليون دولار أميركي في القطاع السياحي، و2% في الاحتياطي الأجنبي، و3.3% في الناتج المحلّي الإجمالي.
السيناريو الثاني: يمتدّ الصراع إلى منتصف العام 2024، وسيكون هناك 1.6 مليار دولار أميركي في القطاع السياحي، و6% في الاحتياطي الأجنبي، و9.8% في الناتج المحلّي الإجمالي.
السيناريو الثالث: يطول أمد الصراع ويتسع نطاقه، وهنا توقّعت الوكالة خسائر بقيمة 3.7 مليار دولار أميركي في القطاع السياحي، و13.9% في الاحتياطي الأجنبي، و22.9% في الناتج المحلّي الإجمالي.
شروط السيناريو الثاني في ما يخصّ الوقت تحقّقت، لكن حتّى الساعة لا تظهر إشارات تدلّ على أنّ توقّعات الوكالة في ما يتصل بالقطاع السياحي ستتحقّق. فعلى الرّغم من التهويل بالحرب المفتوحة، لا يزال المغتربون اللبنانيون يتوافدون إلى لبنان لتمضية العطلة الصيفية في ربوع وطنهم الأم. وهو ما قد يدرّ على لبنان عدّة مليارات من الدولارات. وحتى الاحتياطي الأجنبي من العملات زاد، بحسب تصريح أدلى به أخيرًا حاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري.
لكن في حال الذهاب إلى السيناريو الثالث، فإنّ حظوظ تحققّ توقعات ستاندارد آند بورز عالية جدًا. فحرب مفتوحة وطويلة ستؤدّي حكمًا إلى خسارة الموسم السياحي (أي عدّة مليارات من الدولارات) أضف إلى ذلك أنّ الاحتياطي من العملات الأجنبية سيقلّ بحكم الإنفاق غير المُتوقّع للدولة (طبابة، أدوية، مواد غذائية...). وبما أنّ الأسعار على التأمين سترتفع، فهذا يعني مزيدًا من استنزاف الاحتياطي الأجنبي. وما دام النشاط الاقتصادي سيتوقّف حكمًا إذا ما توسّعت رقعة المواجهة، فإنّ الناتج المحلّي الإجمالي سينخفض راهنًا بحجم العدوان الإسرائيلي وكثافته. عندئذ ستتحوّل حياة المواطن إلى جحيم بسبب الاحتكارات ورفع بعض التجّار الأسعار، وهو ما يجعل ضبطهم خلال الحرب صعبًا جدًا.
إلّا أنّ الأصعب هو الخسارة في الكتلة النقدية بالدولار الأميركي (سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة) لأنّ التحرّك والنشاط لن يكونا سهليْن على الأرض. وبالتالي، فإنّ هذه الكتلة التي تدعم صمود اللبنانيين ستنخفض وسيزداد انخفاضها نتيجة ارتفاع الأسعار الناتجة من الجشع والتهريب وغيرهما.
علمًا أن الكتلة النقدية بالدولار الأميركي المتداولة في الأسواق وبين أيدي اللبنانيين، تفوق الـ20 مليار دولار أميركي موزّعة ما بين التجّار وأرباب العمل والمواطنين، والنازحين السوريين. وإذا طال أمد الحرب فقد يُستنزف نصف هذه الكتلة خلال بضعة أشهر تقريبًا.
بالطبع، فإنّ الحكومة اللبنانية عاجزة عن استباق أيّ تداعيات، لأنّ قرار العدوان هو خارجي في الدرجة الأولى، وبالتالي، فإنّ الحديث عن خطّة طوارئ يتم العمل عليها (لا نعلم ماذا حلّ بالخطّة السابقة!)، هو خارج الإطار العملي وتسويق إعلامي لا أكثر ولا أقلّ. فالقطاع الاستشفائي عاجز بشكل شبه كلّي عن مواجهة انعكاسات إجرام العدو الإسرائيلي إذا ما مارس هذا الأخير سياسة التدمير التي يُمارسها في غزّة. وعليه، سيكون التعويل على المساعدات الدولية والمستشفيات الميدانية التي ستُقدّمها الدول الصديقة. أمّا على صعيد المواد الغذائية، فالعدو سيُحاول ضرب طرق الإمداد بهدف تجويع الشعب اللبناني، وهنا أيضًا سيعتمد لبنان على المُساعدات الخارجية على غرار ما يحصل في غزّة.
الحكومة اللبنانية عاجزة عن استباق أيّ تداعيات، لأنّ قرار العدوان هو خارجي في الدرجة الأولى
وعلى صعيد الكهرباء، أغلب الظّن أن لا تستثني يد الإجرام هذا القطاع. وسيكون اللبنانيون رهينة قدرة شركات النفط المستوردة على جلب المحروقات للمولّدات، خصوصًا في المدن حيث الاكتظاظ السكّاني، ولا إمكانية لديها لوضع ألواح شمسية للطاقة.
عمليًا، يفتقد لبنان كلّ المقوّمات التي تسمح له بالصمود في أيّ حرب، نتيجة الأزمة السياسية الحالية. ولكن أيضًا نتيجة الأزمة الاقتصادية وعقود من السياسات الاقتصادية "الخنفشارية" التي لم تستطع بناء دولة بمؤسسات قويّة وبقطاعات اقتصادية يُمكنها أن تؤمّن الحدّ الأدنى من الصمود في حال نشوب حرب مفتوحة. أضف إلى ذلك أنّ غياب اقتصاد قوي قادر على تأمين الدولارات، جعل مداخيل الدولة بالليرة اللبنانية بشكل شبه حصري (تأتي مُعظمها من السوق السوداء) مع العلم أنّ جميع مدفوعاتها هي بالعملة الصعبة، حتّى موظّفو الدوّلة يقبضون أجورهم بالدولار الأميركي.
في هذا الوقت، يعيش المواطن على وهم الكاش الموجود بين يديه، مُعتقدًا أنّ الأمور عادت إلى نصابها، وأنّ الأمر يقف عند إعادة هيكلة المصارف التي، على الرغم من أهميّتها (نظرًا إلى أنّ أموال المودعين محجوزة داخلها)، تبقى نقطة في بحر إعادة هيكلة القطاع العام.
يحوي هذا الإطار على الرّغم من سواده بصيص أمل يأتي من وجود النزوح السوري الذي يخشاه الأوروبيون بشدّة، والذي يُشكّل ورقة رابحة في يد لبنان للضغط على إسرائيل بغية منعها من الانتقال من حرب محدودة إلى حرب مفتوحة في الزمان والمكان. بالطبع، فإنّ الخشية من توسّع نطاق الحرب لتشمل دولًا إقليمية أخرى يُشكّل عامل ردع إضافيًا. كذلك الأمر بالنسبة إلى الانتخابات الأميركية التي تلعب دورًا ضاغطًا لمنع القيادة الإسرائيلية من الغوص في مثل هذه المُغامرة.
حمى الله لبنان من الأيدي الشريرة.