ليس هناك تعريف موحّد للحرب النفسية. هناك من يسمّيها "الحرب السيكولوجية" أو "الحرب السياسية" أو "حرب البروباغندا"، وغيرها من الأسماء الكثيرة. لكنها تُعدّ واحدة من أكثر الأدوات فاعلية في الصراعات الحديثة، لأنّها حرب تهدف إلى تغيير السلوك والاقتناعات بأدوات غير عسكرية ميدانها عقول الجماعات والأفراد، مدنيين كانوا أم عسكريين.

ترمي هذه الحرب إلى إضعاف معنويات الشعوب والقوات المسلّحة وتحطيم إرادتها وزعزعة ثقتها بنفسها وبمجتمعاتها وهرمية الدولة من دون الحاجة إلى استخدام القوّة العسكرية التقليدية، بعدما أصبح من الصعب على أيّ من الدول، وحتّى العظمى منها، تحمّل تكاليف الحرب العسكرية التقليدية التي تستنزف طاقاتها المالية والاقتصادية والبشرية بشكل كبير.

إنّها حرب مبنيّة على الإشاعات والشائعات وعلى أخبار كاذبة مضلّلة، تدور وتتناقل وتتفاعل وتتحرّك كالقوة التي تُحدِثُها الأعاصير في المحيطات.

وما حصل ويحصل خلال الحرب على غزة، والمعارك عند الحدود اللبنانية الجنوبية من حرب نفسية ليس بجديد، إنما دخلت على هذا الأسلوب أدوات وتقنيات جديدة وصلت حدّ الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. وكلّنا يذكر الأخبار التي تناقلتها وسائل إعلام غربية عن قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين في 7 تشرين الأول على يد عناصر من حركة حماس، وقد تبنّاها الرئيس الأميركي جو بايدن ليتبيّن لاحقاً أنّها أخبار مضلّلة، كانت غايتها حشد الدعم الدولي لمصلحة إسرائيل. هذا الأسلوب من الترويج برز بقوة خلال الأشهر الأخيرة حين حاول العدو الإسرائيلي اعتماده لاستمالة الرأي العام العالمي وحجب صورة ما يرتكبه من مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، مثل الرواية التي روّج لها عقب استهداف مستشفى المعمداني حيث تلاعب بالصور ليتهم حماس بالمسؤولية عنه، ثم اتّضح لاحقاً أن إسرائيل هي المسؤولة عن القصف الذي استمر مستهدفاً المستشفيات والمدارس وأماكن الإيواء من دون حتى محاولة تبرئة نفسه من المسؤولية.

فطالما اعتمدت وسائل الإعلام الغربية تحديداً، ولاحقاً بعض الإعلام العربي، الرواية الإسرائيلية للأحداث، بقصد التضليل وإخفاء الحقائق أو تحويرها كي تناسب الترويج لمصلحة الإسرائيليين ودعماً لهم.

وفي هذا الإطار، يضع خبراء الإعلام ما جرى أخيراً من شائعات يروج لها بعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لتتبناها وسائل إعلامية وتنشرها من دون التحقق من صحّتها. وفي ما يتعلّق بلبنان تحديداً، يمكن ذكر ما تناولته وسائل إعلامية عدة عن سحب بعض الدول سفراءها. كما جاء في صحيفة "التليغراف" البريطانية عن استخدام مطار رفيق الحريري الدولي لتخزين الصواريخ والمتفجرات. وهو ما وضعه وزير الإعلام اللبناني زياد مكاري في خانة المزاعم الزائفة والأخبار الكاذبة. وبالتالي، يقع هذا الخبر في خانة الحرب النفسية.

مفهوم الحرب النفسية

تستند الحرب النفسية إلى فهم عميق للطبيعة البشرية والقدرة على التلاعب بالمشاعر، معتمدةً طرق عدة، منها:

  • الإرباك: يتمّ استخدام وسائل الإعلام، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، لنشر الأخبار الكاذبة والمعلومات المضلّلة لإرباك المجتمعات.
  • التأثير النفسي: يتمّ استغلال العاطفة الإنسانية مثل الخوف والشك وعدم ثقة الفرد بمجتمعه ودولته.
  • الإشاعات والشائعات: تكون صادمة ومثيرة للجدل من أجل التأثير على أفكار الأشخاص والمجتمعات لتشتيت الرأي العام. كما يمكن بث رسائل تخويف لتعزيز الشعور بعدم الأمان، أو بث رسائل تشجيع وأمل بحياة أفضل وحُكم أفضل بهدف القيام بثورة أو انتفاضة أو بأعمال شغب وفوضى منظمة أو عشوائية بهدف قلب النظام أو زعزعته أو تفتيته لغايات سياسية إقليمية أو دولية.
ويمكن التدقيق في هذه العناوين ومطابقتها على ما حصل في لبنان عام 2019، والأمثلة كثيرة وليست بقديمة.

تداعيات الحرب النفسية

تتسبّب الحرب النفسية بتداعيات عميقة ومتنوّعة، يمكن أن تبدأ قبل الحرب التقليدية وتستمر خلالها وتبقى بعدها، لتتجاوز حدود الصراعات العسكرية وتشمل التأثيرات الاجتماعية والسياسية والنفسية في المجتمعات، وأهمّها:

  • الانهيار المعنوي، الذي يضعف التماسك الاجتماعي ويؤدي إلى تحلّل العلاقات بين الأفراد والجماعات.
  • خلخلة الثقة، مما يسهّل تفكك المجتمعات وانحلال المؤسسات الحكومية.
  • الفوضى المجتمعية، أساسها المعلومات المضلّلة التي تساعد في انتشار الفوضى والاضطرابات الاجتماعية، مما يجعل من الصعب استعادة النظام والاستقرار.
  • التأثيرات الاقتصادية، سببها خوف المستثمرين وهروبهم وتراجع الثقة في الأسواق المالية.

إنّ تداعيات الحرب النفسية تكون عادة طويلة الأمد، وتترك آثاراً بالغة على الصحة النفسية للأفراد، وخاصة الأطفال والشباب.

مواجهة الحرب النفسية

لمواجهة الحرب النفسية، يجب على الدول والمؤسسات اتخاذ مجموعة من الإستراتيجيات الفعّالة، منها:

  • تعزيز الثقة: العمل على بناء الثقة وتعزيزها بين الحكومة والمواطنين من خلال محاربة الفساد والتأكيد على الشفافية والصدقيّة في التعامل. فعندما يثق المواطن بمجتمعه ومؤسساته الرسمية يصبح من الصعب على "الحرب النفسية" والمعلومات المضللة أن تحقّق أهدافها.
  • التوعية: نشر الوعي بين المواطنين حول إستراتيجيات الحرب النفسية وكيفية التعامل معها، وتدريبهم على أساليب التحقّق من المعلومات وتجنّب الشائعات والإشاعات.
  • الدعم النفسي: توفير الدعم النفسي للمجتمعات المتأثّرة. يمكن أن تشمل هذه الإستراتيجيات برامج توعية عن الصحة النفسية والمساعدة الاجتماعية.
  • الاستخبارات ومكافحة الإرهاب: تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية وتكثيف النشاطات الاستخبارية لكشف البروباغندا النفسية الموجّهة ضد الدولة والمجتمع ومكافحتها.
  • التواصل المستدام: من أجل حماية المجتمع من تأثيرات الدعاية السلبية، يجب استخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على أنواعها لنشر الرسائل الصحيحة وتوضيح الحقائق والتصدّي للمعلومات المضللة بسرعة وفاعلية.
عن قصد أو من غير قصد قد ننخرط جميعاً في الحرب النفسية، فبدل أن نكون من ضحاياها علينا أن نستعدّ للتصدّي لها.

ختاماً، يتعيّن على الدول أن تحصّن نفسها ومواطنيها ضدّ تداعيات الحرب النفسية وتحافظ على استقرارها وأمنها. فالحرب النفسية سلاح فتّاك قد يُستخدم لتحقيق أهداف إستراتيجية من دون اللجوء إلى الحرب التقليدية المباشرة ذات التكلفة الباهظة.

ولهذا، يتطلّب التصدي لهذا النوع من الحروب فهماً عميقاً لأساليبها وتطوير إستراتيجيات فاعلة لمواجهتها وحماية المجتمعات من آثارها المدمّرة من خلال التوعية المكثفة والتدريب وتعزيز ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها.

وتبقى أهمّ نصيحة حين يطالع أحدنا معلومة عبر منصة إخبارية أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أن يسأل عن مدى صحّتها ومصدرها وسبب نشرها في هذا التوقيت والغاية منها، ومن يمكن أن يستفيد منها، وما يمكن أن تؤدي إليه في حال إعادة نشرها. إنها الحرب النفسية، وجميعنا منخرطون فيها، فبدل أن نكون من ضحاياها علينا أن نستعدّ للتصدّي لها.

   * وزير سابق