لم يؤدِّ الأداء السياسي الذي اتبعته مختلف القوى السياسية في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية حتى اليوم، إلى إنشاء دولة بكلّ ما للكلمة من معنى. فالمُحاصصة السياسية والطائفية في مُمارسة السلطة سمحت بتفشّي أمراض قاتلة للكيان اللبناني كالفساد والارتهان إلى الخارج...
هذه الخلاصة لا تأتي من العدم، بل هي نتاج التقييم الكمّي الصادر عن مؤسسات دولية تُصنّف الدول في عِدّة مجالات، وتُظهر أنّ لبنان يحتلّ المراتب الأخيرة في جميع القطاعات، وعلى كلّ الأصعدة (مؤسساتيًا، حوكمة، سياسات اقتصادية، سياسات اجتماعية، حتّى على الصعيدين السياسي والأمني).
لبنان يحتلّ المراتب الأخيرة في جميع القطاعات، وعلى كلّ الأصعدة
التصنيف الأوّل هو "مؤشّر سهولة ممارسة الأعمال" الذي يُحتسب من خلال عشرة مؤشّرات فرعية: الشروع في النشاط الاستثماري، التعامل مع تصاريح البناء، الحصول على الكهرباء، تسجيل الممتلكات، الحصول على الائتمان، حماية المستثمرين، دفع الضرائب، التجارة خارج حدود البلد، تنفيذ العقود، الإنقاذ من الإفلاس، بالإضافة إلى مؤشّرين هما المسافة إلى الحدود، والممارسات الجيدة.
تصنيف لبنان في آخر المُعطيات المتوافرة التي تعود إلى العام 2020، يُظهر أنّ لبنان احتلّ المرتبة 143 على 190 بلدًا. بمعنى آخر، هناك 142 بلدًا توفّر مناخًا أفضل للأعمال من لبنان. وبالتالي، يُطرح السؤال هل يُمكن أن يُجذب مُستثمر إلى لبنان؟
الرسم البياني الرقم 1، يُظهر تصنيف لبنان بحسب مكوّنات "مؤشّر سهولة ممارسة الأعمال" نقاط ضعف لبنان على صعيد إنشاء عمل، أو التعامل مع رخص البناء، أو التجارة عبر الحدود أو مُعالجة الإفلاس.
التصنيف الثاني هو مجموعة مؤشّرات الحوكمة العالمية، أي الصوت والمساءلة، الاستقرار السياسي، فعالية الحكومة، الجودة التنظيمية، دولة القانون، مكافحة الفساد. وهنا أيضًا يظهر لبنان في أسفل المراتب العالمية.
الرسم البياني الرقم 2 يُظهر تصنيف لبنان على المؤشّرات الستة حيث يبرز جليًا أنّ لبنان لم يحصل على علامة واحدة فوق العشرين على مئة، وهو ما يجعله في خانة الفاشلين على صعيد هذه المؤشّرات من دون استثناء. ولعلّ مؤشّرَي الاستقرار السياسي والمُساءلة هما الأسوأ على الإطلاق.
التصنيف الثالث هو مؤشّر التنافسية العالمية المستدامة المؤلف من سبعة مؤشّرات هي: القدرة التنافسية المستدامة، رأس المال الطبيعي، كثافة الموارد، رأس المال الاجتماعي، رأس المال الفكري، الاستدامة الاقتصادية، الحوكمة. وهنا أيضًا يظهر لبنان في أسفل التصنيف.
الرسم البياني الرقم 3، يُظهر تصنيف لبنان على المؤشّرات السبعة للعام 2023، حيث يتبيّن حجم الكارثة الناتجة من السياسات التي انتهجها المسؤولون. فعلى صعيد القدرة التنافسية المستدامة، يظهر لبنان في المرتبة 182 على 184 دولة. على صعيد الحوكمة يظهر لبنان في المرتبة 153 على 184 وهو ما يُرتّب مسؤولية مباشرة على السياسات المُتبعة.
التصنيف الرابع هو مؤشّر السلام العالمي المكوّن من 26 مؤشرًا هي: ظاهرة الإجرام في المجتمع، ضباط الأمن والشرطة، جرائم القتل، السكان المسجونون، الوصول إلى الأسلحة، الصراع المنظم (داخلي)، تظاهرات عنيفة، جريمة عنف، عدم الاستقرار السياسي، الإرهاب السياسي، واردات الأسلحة، النشاط الإرهابي، الوفيات الناجمة عن الصراع (داخلي)، الإنفاق العسكري، أفراد الخدمات المسلحة، تمويل عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، الأسلحة النووية والثقيلة، صادرات الأسلحة، النازحون، علاقات الدول المجاورة، الوفيات الناجمة عن الصراع (خارجي)، الصراعات الخارجية، الصراعات الداخلية، الصراع المحلي والدولي، سلامة الامن، العسكرة.
وهنا يظهر أيضًا أنّ تصنيف لبنان هو من الأسوأ في العالم إذ احتلّ في العام 2024 المرتبة 134 على 163 دولة، وهو ما يجعله من أقلّ البلدان أمانًا واستقطابًا للاستثمارات.
بالطبع، هناك مؤشّرات عديدة أخرى، ولكن نكتفي بهذا القدر في هذه العجالة لأنّ كلّ هذه المؤشّرات العالمية لا تصبّ في مصلحة لبنان وتُصنّفه في عداد الأسوأ عالميًا. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، مؤشّر السعادة حيث يحتلّ لبنان المرتبة 142 على 143 دولة، ومؤشّر الحوكمة العالمية حيث يحتل المرتبة 153 على 180 دولة.
لكن ما الهدف من ذكر جميع هذه المؤشّرات؟
برؤية خارجية (perception) للبنان، هناك اقتناع دولي أنّ الأداء السياسي العام سيّىء، وهو ما يدفع لبنان ثمنه على الصعدين الاجتماعي والاقتصادي. فمواطنو هذا البلد غير سعداء، وأتوا في المرتبة ما قبل الأخيرة على الصعيد العالمي، ومناخ الأعمال غير مؤاتٍ لجذب الاستثمارات، وبالتالي، فإنّ الناتج المحلّي الإجمالي لن يتحسّن في غياب المُستثمرين، وهذا كلّه ينعكس على الوضع الأمني من باب الجرائم التي تزداد يومًا بعد يوم.
إذًا، فإنّ المطلوب من الطبقة السياسية وقفة ضمير ورؤية المشهد اللبناني بعيون الخارج. هذا الأمر سيؤدّي إلى تعديل جذري في السياسات العامّة الحالية التي صبّت، ولا تزال تصبّ، في مصلحة القوى السياسية على حساب المؤسسات العامة.
وهنا يُطرح السؤال: هل يتمّ التصويت للقوى السياسية نفسها التي أوصلت البلد إلى هذا المستوى إذا أُجريت انتخابات نيابية؟ إنّه سؤال برسم الشعب اللبناني الذي يعيش حاليًا وهم عودة الفرج الاقتصادي، الذي هو ليس إلا وهم اقتصاد الكاش، ويترك خلفه تداعيات جمّة ستصبّ نيرانها على لبنان في المُستقبل.