لم يعُد هذا السؤال طيّ الهمس والكبت في لقاءات عائلية أو سياسية أو حزبية ضيّقة كما كان يحصل في مراحل سابقة وينتهي إلى لاجواب أو على الأقل إلى لا استفاضة ولا توسّع، بل خرج إلى وسائل الإعلام والمنتديات والمنابر والمواقف السياسية والدوائر الشعبية، وبدأ يُثير نقاشات واحتمالات وأحاديث عن مخارج وحلول، ليس حصراً في البيئة المسيحية الأكثر تعبيراً في هذا المجال، بل أيضاً في بيئات الطوائف اللبنانية الأخرى.
لذلك، تفرض الشفافية والموضوعية وشجاعة البحث عن إجابات، تحرير هذا السؤال من إطار المحرّمات المَسكوت عنها، وطرح أبعاده بشكل علمي سياسي وسوسيولوجي بهدف تفكيك عُقَده وأفخاخه وإيجاد أرضية مشتركة تحت سقف دولة واحدة.
كنّا قد أشرنا في مقال سابق إلى فكرة التناقض أو المفارقة (paradox) في التلاقي والتفاعل بين جسم جامد وصلب وأجسام متحرّكة وربما رخوة وهشّة.
وهذا ما ينطبق على علاقة "حزب الله" بسائر المكوّنات اللبنانية التي تشكّل أجساماً أو حالات حزبية وطائفية متماوجة متنوّعة بنسب مختلفة، بين السنّة والدروز والمسيحيين، بينما هو جسم فولاذي متماسك بشكل مُحكَم ومغلق سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وعقيدياً، وحتى جغرافياً وتربوياً ومالياً، بحيث بات من الصعب جداً وربما المستحيل توحيد الجامد والمتحرّك، أو الصَلب والليّن، في حالة وطنية واحدة منسجمة وسليمة تكفل العدالة والحقوق والواجبات بشكل متوازن.
والواضح أن الاحتكاك أو التصادم بين جسمَين، صلب ورخو، يؤدّي حُكماً إلى إحدى نتيجتَين:
إمّا اجتياح الصلب للحالات السياسية والطائفية الرخوة والسيطرة عليها وإخضاعها. وهو وضع لا يستقر ولا يدوم طويلاً.
وإمّا لجوء هذه الحالات إلى التشبّه بصلابته وتكوين أجسام صلبة تواجهه.
وهذه النتيجة الأخيرة تعني بوضوح الاتجاه إلى صدام طائفي ومناطقي يحاكي الحرب الأهلية، وكانت حرب السنتين 75 - 76 وما يليها أحد نماذجها لناحية الصراع الداخلي المسلّح بإسناد خارجي واسع.
وكانت ل"الحزب" تجارب صدامية عدّة ما بعد العام 2005 وخروج الجيش النظامي السوري من لبنان، وكادت تُشعل حروباً أهلية في أكثر من اتجاه، أخطرها اجتياح بيروت وأطراف عاليه والشوف في أيّار 2008، وإسقاط حكومة سعد الحريري 2011 ب"الثلث المعطّل"، وبعد ذلك أحداث شويّا وخلدة والطيّونة - عين الرمّانة.
والنتيجة أن "الحزب" أدرك بعد هذه التجارب الصدامية أن جسمه العسكري والسياسي الصلب لا يستطيع البقاء طويلاً داخل الأجسام الطائفية الأخرى التي تستريب منه وتنفر من سلاحه ومشروعه، وهذا ما حداه إلى الانسحاب سريعاً من المناطق التي اجتاحها لقاء مكاسب سياسية في "اتفاق الدوحة"، واعتمد بعد ذلك سياسة الاحتواء المزدوج سواءٌ عبر "سرايا المقاومة" أو دعم أذرع انتخابية سياسية نيابية في هذه المناطق واستتباعها لقراره المركزي.
ولكنّ هناك تجربةً أشد بلاغةً وأثراً تعبّر بشكل حاسم عن فشل التحالف، وربما التعايش، بينه وبين الأجسام السياسية والطائفية الأخرى، هي تجربة تحالفه مع "التيّار العوني" في نصّ مكتوب هو الوحيد الذي وقّعه حتى الآن مع حزب آخر، وانتهى إلى سقوط كلّ بنوده بما فيها البند الرابع الخاص ب"بناء الدولة"، وبقاء بنده العاشر الأخير الخاص بغطاء سلاحه إلى أمد غير منظور، وهو الخيط الرفيع الحي الباقي منه.
إنقاذ لبنان يحتاج إلى رؤوس هادئة وحكيمة من مستوى لائحة العقلاء، لئلّا تقع جميع الطوائف في متلازمة تقليد "الحزب"
صحيح أن التعاطف اللبناني العام مع مأساة غزة خففّ نسبياً من الاحتقان المذهبي والطائفي مع "حزب الله"، لكنّ حالة الحذر والشك وعدم الثقة لا تزال ماثلة في مناطق التداخل والتماس من بيروت إلى الضاحية بجنوبها وشرقها وأطراف الجبل وصولاً إلى الجنوب والبقاع وبعض جبل لبنان الشمالي.
صحيح أيضاً أن لقاءات تحصل على المستوى السياسي بهدف احتواء التشنّجات، وهناك مشاورات ومسايرات وتنازلات وتصريحات إيجابية تفادياً لاستعادة السلبيات السابقة، لكنّ الحذر لا يزال مستمراً وقائماً بين البيئات المتقابلة، ما يتطلّب شجاعة الاعتراف بالمشكلة للبحث عن معالجتها قبل أن تتفاقم من جديد.
وما المطالبات غير المكتومة باللامركزية الموسّعة أو اللامناطقية والفيدرالية وتغيير "التركيبة" سوى نتيجة لاستعصاء معالجة سلاح "الحزب" وتفرّده بالقرارات الاستراتيجية، والفشل في رفع سطوته عن قرار الشرعية وعن سيادة الدولة.
ولا يخفى أن بقاء "لبنان السياسي" الذي حذّر لو دريان من انتهائه، بات مرهوناً بمدى قابلية "حزب الله" للعودة إلى التوازنات التاريخية، والاقتناع بأن "الشيعوية العسكرية السياسية" التي يمثلها بامتياز آيلة إلى الانقضاء أسوةً ب"الطوائفيات السياسية" التي سبقتها من مارونية وسنّية، ولمَ لا درزية (زعامة كمال جنبلاط على "الحركة الوطنية" في السبعينات ووليد جنبلاط على بدايات انتفاضة 14 آذار 2005).
وهنا، لا بدّ من توضيح عبارة "الشيعوية"، فليس المقصود منها التندّر أو التنمّر أو الاستخفاف أو التشويه، بل توصيف حالة التشدد والتطرف والأصولية، خصوصاً أنها تواجه اعتراضاً واضحاً داخل البيئة الشيعية نفسها، سواءٌ من حركة "أمل" أو سواها من قادة رأي ومثقفين وفاعليات دينية ذات وزن لا تؤمن بإطلاقية "ولاية الفقيه" ومشروعها السياسي من خارج الدولة.
وقد يتطلّب انسياب "الحزب" داخل الاجتماع اللبناني المتعدد، الاستهداء بأئمّة الطائفة الكبار من علماء جبل عامل في التاريخ الوسيط وعصر النهضة، إلى الإمامَين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين والعلّامة محمد حسين فضل الله والسّياد محمد حسن الأمين وهاني فحص وعلي الأمين وسواهم، مع كوكبة من المتنوّرين الذين نصحوا بعدم الانخراط في مشاريع سياسية خارج لبنان والأوطان العربية.
وليس مصادفة أن تعجز بيئة "الحزب" على مدى 42 سنة عن تقديم قامات من قماشة هؤلاء القادة التاريخيين الذين أدركوا والتزموا معنى لبنان ورسالته، ونسجوا علاقات مستقرة ومتفاعلة مع سائر مكوّناته.
ولعلّ هذا القصور عائد إلى إقفاله باب الاجتهاد على العقيدة غير القابلة للمناقشة.
والحقيقة أن إنقاذ لبنان يحتاج إلى رؤوس هادئة وحكيمة من مستوى لائحة العقلاء، لئلّا تقع جميع الطوائف في متلازمة تقليد "الحزب"، وتُصاب الأحزاب بعدوى صرامته العسكرية ونظامه الفولاذي، بحجّة حماية الذات ونمط الحياة، فتنقلب نعمة العيش المشترك إلى نقمة التصادم بين الأجسام الصلبة.