منذ تربّعه على كرسيّ رئاسة مجلس النواب قبل 32 عاماً، سعى الرئيس نبيه بري قدر المستطاع إلى تفادي الاشتباك المباشر مع أيّ من الأطراف السياسية، معتمداً بذلك على نواب حركة "أمل" في محاولة لفصل صورته كرئيس للسلطة التشريعية عن صورة "الأخ نبيه" رئيس "الحركة". إلّا أنّ مواقفه في الأشهر الأخيرة اتّسمت بالسجال مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي يحمّله مسؤولية إغلاق أبواب ساحة النجمة، وتعطيل استحقاق رئاسة الجمهورية، والأهم هو اعتبار جعجع أنّ ممارسات برّي ومواقفه أخيراً تكاد تنتقل به من أحد قطبي "الثنائي الشيعي" إلى "الانصهار" بمشروع "حزب الله" إلى حدّ الانمحاق.
فجعجع لطالما سعى إلى التمييز بين طرفي "الثنائي" منذ خروجه من المعتقل عام 2005، وإلى الحفاظ على خطوط مفتوحة مع برّي، معوّلاً على أنّ منطلقات مشروع حركة "أمل" وأبعادها لبنانية بامتياز، مرتكزة على مفاهيم الإمام المغيّب موسى الصدر على عكس مشروع "حزب الله" الإيراني المنشأ والمتمحور حول الثورة الإسلامية وفكر الإمام الخميني ومشروع الأمّة. إلّا أنّه لمّح أكثر من مرة في الفترة الأخيرة إلى أنّ رهانه لم يكن في مكانه، وأنّ بري من خلال موقعه الرسمي ودوره يفيد مشروع "الحزب" أكثر من "الحزب" نفسه ربما.
في هجومه يصوّب برّي على جعجع من باب "الفدرالية" مستحضراً رفع "القوات" شعار "حالات حتماً" في ثمانينيات القرن الماضي. فردّاً على طرح جعجع إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية، واستثناء مناطق الأعمال الحربية كما حصل، على سبيل المثال، حين استُثنيت المناطق الجنوبية المحتلة في انتخابات 1998، قال برّي في 16/4/2024 عبر محطة "الجديد": "لن تحصل انتخابات بلدية من دون الجنوب، وبدو يستوعب جعجع مش مستعد أفصل الجنوب عن لبنان. الخطورة في كلام جعجع هو عن الفيدرالية، وهذا يعني أنّنا لا نزال في "حالات حتماً"...". كما كرّر القول في 3/6/2024 إلى صحيفة "الجمهورية": "لقد أصبح واضحاً أنّ جعجع لا يريد الحوار ولا انتخاب رئيس للجمهورية، وذلك في محاولة منه للدفع نحو اعتماد الفيدرالية التي لم يتخلّ عنها، وللأسف لا يزال الرجل يقيم في "حالات حتماً"...".
الفيدرالية طرح يحاكي هواجس المسيحيين ويتمتّع بمشروعية تاريخية لديهم كونه حظي بتبني "الجبهة اللبنانية" التي ضمّت عمالقة السياسة والفكر عندهم.
بين هذين الموقفين، أكثر من تصريح لبري يعزّز الاشتباك القائم بينهما. فإن كان موقف جعجع غير مستغرب لأنّه اعتاد خوض المواجهات السياسية بالموقف المباشر، فمن غير المألوف اعتماد بري أسلوب الهجوم شخصياً وعلى نحو مباشر. أكثر من عامل قد يقف خلف ذلك:
- الحاجة إلى رفع سقف الخطاب من أجل شدّ عصب جمهوره وحرف الأنظار عن الحجم الكارثي للأضرار البشرية والمادية الناجمة عن تبرّع "حزب الله" بفتح جبهة الجنوب.
- "شيطنة" جعجع لجعل رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل مقبولاً لدى جماهير "الحركة" وتبرير التقارب مع من وصفه يوماً بـ"البلطجي".
- تصوير جعجع أنّه العائق أمام أيّ حوار وانتخاب رئيس لإيهام الموفدين الدوليين و"الخماسية" أنّه المسهّل ورئيس حزب "القوات" هو المعرقل.
لكن بري أخطأ العنوان حين اختار الهجوم من باب "الفدرالية" و"حالات حتماً" على جعجع لأنّه بذلك يُكسبه ليس مسيحياً فحسب، بل وطنياً أيضاً.
في "الفدرالية":
* إنّها نظام سياسي لم تعد تنطلي شيطنته على معظم اللبنانيين عبر استخدام "فزّاعة" أنّها مدخل للتقسيم، لا بل هي "اسم على مسمّى"، أي نظام اتّحادي".
* قد تكون الحلّ الأنجع المعتمد عبر العالم للدول ذات المجتمعات المركبة كلبنان، والتجربة خير دليل من الولايات المتحدة وكندا مروراً بسويسرا وبلجيكا وصولاً إلى الإمارات العربية المتحدة وغيرها الكثير من الدول.
* هي طرح يحاكي هواجس المسيحيين ويتمتّع بمشروعية تاريخية لديهم كونه حظي بتبني "الجبهة اللبنانية" التي ضمّت عمالقة السياسة والفكر عندهم. كما رفعوه كمدخل لحلّ وطني طرحه الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل خلال الحوار الوطني اللبناني في لوزان عام 1984.
* اتهام جعجع بالدفع نحو اعتماد الفيدرالية وبأنّه لم يتخلّ عنها يوماً يكسبه ليس مسيحياً فحسب بل وطنياً كذلك، خصوصاً أنّ ممارسة "الثنائي الشيعي" و"عنجهية السلاح" و"فائض القوة" مهّدت الطريق كي يصبح هذا الطرح أكثر قبولاً لدى عدد من المسلمين، خصوصاً لدى شرائح سنّية عقب استباحة بيروت دموياً في أحداث "7 أيار" ومن ثم عبر شعورها، اليوم، بالتمدّد "الثنائي" في محاولة لملء الفراغ الذي تسبّب به تعليق الرئيس سعد الحريري العمل السياسي. فيما واقع الدروز في الجبل هو أشبه بولاية فدرالية.
* الفدرالية تحفظ حقوق جميع المكونات والمواطنين بعدل ومساواة، وهي بالتأكيد أفضل من "فدرالية الصناديق" التي تضج بالفساد والزبانية والتنفيعات، وتجسّد التمييز بين المواطنين وتحمّل بعضهم أعباء تقاعس البعض الآخر عن القيام بواجباته.
في "حالات حتماً":
* هذا المشروع القائم على إنشاء مطار مدني في حالات تبنّته "القوات" مع سمير جعجع في زمن الحرب، هو ناجم عن سيطرة بري وحلفائه على مطار بيروت يومذاك إذ أصبح الذهاب إليه أو الخروج منه مصيدة لقتل المئات من اللبنانيين وخطفهم.
* كان خطوة تكاملية مع مرفأ جونيه الذي شكّل المنفذ البحري الآمن للبنانيين المقيمين في المناطق الحاضنة لشرعية بعبدا ولقيادة الجيش الشرعي في اليرزة.
* يعكس رؤية جعجع المؤسساتية بعدما بنى قوة عسكرية محترفة ومنظّمة امتلكت حتى قوات بحرية وسلاح جو. كما أنشأ "معهد بشير الجميل" الذي خرّج مئات من الضباط ونظّم قواته العسكرية وفق معايير علمية بعيداً عن الزمر والثكنات الموزّعة مناطق ومللاً. مثلما كان السبّاق إلى تأمين عمليات القلب المفتوح مجاناً وتأمين النقل العام بكلفة رمزية وإنشاء المشاريع السكنية.
فبين عامَيْ 1986 و1988 نجح جعجع في تحويل ما كان يعرف بـ"الشرقية" إلى منطقة تنعم بالازدهار والاستقرار والبحبوحة، بحيث كان اللبنانيون يأتون من المنطقة الغربية إليها للترفيه والسهر من الكسليك إلى القليعات.
أمّا اليوم، وجراء الأمر الواقع والهيمنة المبطّنة على مطار بيروت، فالحاجة باتت ملحّة ليس إلى مطار في حالات بل إلى مطارات في مناطق عدة. الأمر لا يقتصر على المخاوف الأمنية وقضية خطف جوزف صادر من على طريق المطار في 12/2/2009 ما زالت حاضرة في الأذهان، بل على عدم سلامة الطيران بسبب الرصاص العشوائي وعلى حاجات اقتصادية. مطار الرئيس الشهيد رنيه معوض في القليعات الشمالية مطلب لا يقتصر على "القوات" بل يشمل شرائح من طوائف عدة، وعلى رأسها نواب عكار. فهل هذه جريمة أيضاً؟ أوليس "الثنائي" من يضع بشكل أو بآخر veto على تشغيله؟
"حالات حتماً" ليس مذمّة لجعجع بل حتماً وسام على صدره، أمّا النظام الفدرالي فليس تهمة بل هو خيار من حق اللبنانيين التفكير فيه والعمل لأجله، خصوصاً أنّ "الشيعية السياسية" فشلت عبر إمساكها بمفاصل الدولة في تبديد الهواجس لا بل زادت من منسوبها.