من يراقب العلاقة الخاصّة بين الولايات المتحدة وإسرائيل يتجلّى له تطوّر ذهنية المسؤولين الإسرائيليين من الاستماع إلى ما يقوله المسؤولون الأميركيون والأخذ به إلى تحدّي ما يقولونه وتأكيد استقلالية قرار إسرائيل. وهذا يعني الانتقال ممّا كانت الولايات المتحدة تعتبره مصلحة مشتركة إلى ما باتت إسرائيل تعتبره مصلحتها التي قد تكون أو لا تكون مصلحة أميركية.
وهذا تطوّر بارز يعكس ازدياد ثقة إسرائيل بنفسها وبقدرتها على تحدّي قرارات أكبر داعميها بدون اعتبار للانعكاسات، ويعكس أيضاً تنامي التأثير الإسرائيلي على دوائر القرار في الولايات المتحدة عبر مجموعات الضغط والإمساك بمفاصل مراكز القوى ومراكز القرار في واشنطن.
حين أعلن الرئيس جو بايدن في بداية هذا الشهر تعليق إرسال نوع معيّن من الذخيرة إلى إسرائيل، توجهت النائبة الجمهورية عن ولاية نيويورك إليز ستيبانيك إلى إسرائيل ومن هناك وجّهت انتقادا عنيفا إلى بايدن متهمة إياه "بالخضوع لحماس." وعلى غرار ستيبانيك انتقد العديد من الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ، وأبرزهم السيناتور الجمهوري ليندزي غراهام، هذا القرار ولوّح رئيس مجلس النواب، الجمهوري مايك جونسون بتوجيه دعوة إلى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لإلقاء خطاب أمام مجلسيْ الكونغرس بموافقة بايدن أو بدونها.
ما الذي يختلف عليه بايدن ونتنياهو؟
لا يختلفان على ضرورة الرد على هجوم حماس في السابع من تشرين الأول 2023 بل على مداه.
لا يختلفان على ضرورة ضرب حماس وتفكيك بنيتها العسكرية، بل يختلفان على وسائل تحقيق ذلك مع تجنيب المدنيين ضراوة الانتقام.
يختلفان على الأهداف الموضوعة للحرب إذ تشعر الولايات المتحدة – كما الجيش الإسرائيلي – أن الأهداف التي أعلنها نتنياهو عامة وغير قابلة للتحقق.
يختلفان على اليوم التالي مع استمرار إصرار إسرائيل على تجاهل مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار والحل السياسي.
والآن يختلفان على معركة رفح التي يصر فيها نتنياهو على فتح ممر للاجئين الفلسطينيين نحو سيناء غير آبه بما سيترتّب على ذلك.
حتى الآن لم يثنِ موقف بايدن وإدارته نتنياهو عن تنفيذ مشروع اقتحام رفح ولا عن الاستمرار في قصف المدنيين ولا حتى عن الاشتباك مع الجيش المصري. وهذا ما يضع بايدن في موقف حرج إذ لا يستطيع أن يتراجع عن دعمه لإسرائيل ولا يستطيع في الوقت نفسه تركها تفعل ما تشاء مع تزايد اعتراض عدد كبير من المسؤولين والأعضاء في الحزب الديمقراطي على سلوك إسرائيل وارتفاع حركة الاحتجاج في الجامعات ولدى الشباب الأميركي على وجه الخصوص.
حتى الآن لم يثنِ موقف بايدن وإدارته نتنياهو عن تنفيذ مشروع اقتحام رفح ولا عن الاستمرار في قصف المدنيين ولا حتى عن الاشتباك مع الجيش المصري
كيف تمكنت إسرائيل بعد عقدين من إنشائها بقرار أممي من أن تجمع كل هذا التأييد في الولايات المتحدة ومن ثم في أوروبا وأن يكون لها هذا التأثير الكبير في سياسة الشرق الأوسط وفي المسائل السياسية الكبرى في العالم. قد يكون الجواب في جنوح المجتمعَين الأميركي والإسرائيلي إلى اليمين وإلى تنامي الشعور بتفوّق الآلة الحربية.
في بداية شهر آذار هذه السنة أجرت القناة الثانية عشرة في التلفزيون الإسرائيلي استطلاعا أظهر أن معظم الإسرائيليين يفضّلون فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة المقبلة. فقد أيّد 44 في المئة من المستطلعة آراؤهم ترامب، بزيادة 14 في المئة عن بايدن. وقد أظهرت دراستان أجراهما في تشرين الثاني من العام الماضي وفي كانون الثاني من هذا العام معهد إسرائيل للديمقراطية أن أغلبية الإسرائيليين خلافا للسابق، تؤيّد مقاومة القادة الإسرائيليين للخيارات السياسية الأميركية في ما خصّ الشرق الأوسط. ورأوا أيضاً أن على إسرائيل أن تحدد خياراتها السياسية بنفسها حتى ولو شكّل ذلك تحدّيا للولايات المتحدة، علما أن قدرة إسرائيل على الاستمرار ستكون موضع شك وتساؤل إن انقطعت عنها المساعدات الأميركية.
حين عاد نتنياهو إلى رئاسة الوزراء في 2009، كان 51 في المئة من الإسرائيليين يتطلعون بإيجابية إلى الرئيس باراك أوباما مقابل 49 في المئة. إلا أن استمرار نتنياهو في مهاجمته بشراسة بسبب مفاوضات الملف النووي مع إيران وبسبب تأييده حل الدولتين على أساس حدود ما قبل الخامس من حزيران 1967 جعل الرأي العام في إسرائيل ينقلب ضد أوباما.
وبحسب استطلاعات مؤسسة بيو فإن 79 في المئة من الجمهوريين أيّدوا إسرائيل مطلع هذا العام، بزيادة 29 نقطة عما بيّنه استطلاع أجري عام 2001. أما لدى الديمقراطيين فتراجع تأييدهم لإسرائيل من 38 في المئة عام 2001 إلى 27 في المئة قبل ست سنوات. أما في الفئات العمرية فقد أيّد إسرائيل 78 في المئة من الأميركيين فوق الخامسة والستين فيما تراجعت هذه النسبة 40 نقطة لدى فئة الشباب بين 18 و 29 عاما، بحسب استطلاع لمؤسسة بيو نفسها.
في 2015، غامر نتنياهو بكسره أحد المحرّمات الكبيرة في علاقة إسرائيل مع الولايات المتحدة إذ اصطف إلى جانب الجمهوريين وقبل دعوة من رئيس مجلس النواب بدون أن يتلقى دعوة من الرئيس باراك أوباما. وفي الخطاب أمام الكونغرس انتقد سياسة أوباما، ثم عاد إلى إسرائيل ليفوز في انتخابات كانت حامية الوطيس.
واليوم يشعر نتنياهو بأنه يستطيع تكرار المغامرة ذاتها. لكن بايدن هو الذي يواجه اليوم انتخابات صعبة. وقد يكون طريق بايدن للفوز الرد على تحدّي نتنياهو بقرارات أكبر من التحدي.
هل يصل بايدن إلى الصدام مع نتنياهو؟
هل يصل نتنياهو إلى الانفصال عن أميركا؟
بين نعم ولا تبقى غزة الضحية. ويبقى الشرق الأوسط كله غارقاً في أزماته.