في المجتمعات، غالباً ما يتفوّق الانطباع السائد على الحقيقة لدى الشعوب - وإن كان انطباعاً مخطئاً مجافياً للواقع - متى عُرف كيف يتمّ الترويج له والقيام بتكراره Matraquage. قد يتلهى الناس بما يوحي به الشكل وأسلوب التعبير، فيهملون التدقيق في المضمون. هكذا مثلاً جرت الاستفادة من ثبات زعيم تيار "المردة" ومرشح "الثنائي" النائب السابق سليمان فرنجية في خطه السياسي لإعطاء الانطباع أنّه صادق في ما هو ثابت.
إلّا أنّ إنكار Denial ما يتعلّق بممارسات "المردة" الدموية في زمن الحرب والسلم، الذي جسّده فرنجية خلال إطلالته الأخيرة عبر محطة "الجديد" في 26/5/2024 كفيل بتبديد هذا الانطباع، لأنّ ممارسات جميع الميليشيات في زمن الحرب لم يشملها "مرور الزمن" في ذاكرة اللبنانيين الذين دفعوا ضريبتها من حياتهم. فالوقائع دامغة، وهم عاشوها وليست سرديّات تناقلوها من زمن الآباء والأجداد وتستند إلى شهادات الأموات.
فبعد "تشذيب" خطاب فرنجية في السنوات الأخيرة، بعد مصالحته مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في 14/11/2018، عقب العمل على صورة جديدة لزعيم تيار "المردة" Rebranding تتلاءم أكثر مع المسعى للترويج له رئاسياً، ها هو فرنجية يفتح صفحات الحرب عبر "الجديد" قائلاً: "نحنا لا قتلنا ولا هجّرنا ولا دبحنا ولا خطفنا. نحنا منطقتنا انحمت وخلّينا ناسنا مرتاحين وبكرامتهم، وما حدا انكسر زجاجه، وبديمقراطيتهم وبحرّيتهم ويحكوا البدهم ياه. و90% من القوات اللبنانية يلّي تهجّروا بعد 1978 أنا رجّعتهم قبل 90 ع مناطقنا. الـlbc لي كانوا بدّهم يصادروها أنا حميتها. (…) نحن مناطقنا زجاج ما انكسر فيها وما صار في غلطة، وكلّو بالعلاقة الطيبة والمنيحة مش بالعنتريات. (...) المسيحيين تهجروا وتدبحوا ونقتلوا من وراكم نحن كلّو ما صار عنا. (...) العالم لي كبّيتوها بالبحر، المجازر لي عملتوها بداني شمعون وفينا والصفرا". كما تطرّق فرنجية الى التاريخ العسكري للعماد عون وخوضه حربي "الإلغاء" و"التحرير" اللتين تسبّبا بمقتل آلاف المسيحيين وإعاقتهم وهجرة مئات الآلاف منهم.
لوهلة يخال المرء أنّ بنشعي موطن غاندي، وأنّ "المردة" جمعية "فرسان مالطا" أو أنّ "كتيبة الـ3/400" التي أسّسها فرنجية في أواخر العام 1984 هي جمعية "مار منصور". (3/400 هو رقم والده الشهيد طوني فرنجية الذي كان يستخدمه عبر الأجهزة اللاسلكية، وقد سمّى سليمان فرنجية الكتيبة تيمّناً به، وعبرها بدأ العمل العسكري ثم السياسي في منطقة زغرتا حيث كان يومذاك عمّه الراحل روبير فرنجية هو الذي يمسك بزمام القيادة العسكرية لميليشيا "المردة").
"الإنكار" لا يغيّر الحقائق بل وحدها جرأة الاعتذار هي التي تؤسّس لطيّ صفحة. "المكابرة" لا توصل إلى قصر بعبدا بل وحدها الظروف وموازين القوى.
من دواعي الأسف العودة إلى الماضي الأليم، لكن فرنجية تناسى أنّ قرار الرئيس سليمان الجد رفض دخول الأحزاب المارونية إلى القضاء بعد صعودها الشعبي مطلع حرب الـ75 وإنذاره الكتائبيين بضرورة المغادرة، ترجم مضايقات لعدد كبير منهم وتصفيات بلغت حد اغتيال رئيس إقليم زغرتا الكتائبي جود البايع عام 1978، وما تبعها من ارتكاب "الكتائب" مجزرة إهدن الكارثية في 13 حزيران من ذاك العام، والتي ذهبت ضحيتها عائلة سليمان فرنجية الحفيد، أي والده النائب طوني فرنجية ووالدته وشقيقته ونحو 30 من مناصريه.
تناسى فرنجية المجازر التي ارتكبت بعدها في القاع ورأس بعلبك والفاكهة بالتعاون مع السوريين. تناسى تهجير الكتائبيين من الشمال ونسف بيوتهم. تناسى مجزرة شموت - جبيل في 21/4/1979 حيث تسلّلت مجموعة من "المردة" بلباس الكتائب وارتكبت مجزرة بالأهالي وغيرها من المجازر.
تناسى القتل والتصفيات ولن نسرد لائحة الضحايا لأنّها تطول. ولكن يكفي أن يسأل حليفه النائب إسطفان الدويهي عن مقتل شقيقه الشاب رومانوس الدويهي (والدهما سقط في مجزرة مزيارة على يد الرئيس الراحل سليمان فرنجية عام 1957) الذي كان متوجهاً إلى مستشفى السيدة – زغرتا بعد قتل "3/400" قريبه بهاء الدويهي.
تناسى الإشكالات الدموية لـ"المردة" مع "القوات" بعد "ثورة الأرز" والانسحاب السوري منعاً لعودتها إلى الساحة الشمالية، من عزيز صالح وطوني عيسى في 1/7/ 2005 في ضهر العين إلى رياض أبي خطار الذي سقط على أوتوستراد البترون خلال الثلاثاء الأسود 23/1/2007 وصولاً إلى بيار اسحق في بصرما في 17/9/2008.
الأجدى عدم العودة إلى فتح صفحة مجزرة إهدن أو التمنين بمصالحة تأخّرت حتى العام 2018، بعدما صالح أصحاب القرار والمشاركين فيها قبل سنوات، خصوصاً أنّه يعرف جيداً حجم جعجع ودوره فيها. فليأخذ بنصيحة الوزير السابق يوسف سعادة الذي قال في 16/11/2018: "يوم حصلت حادثة إهدن هناك أشخاص تبرأوا منها لكن رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع تبنّاها بشكل ما لأنّه اعتبر أنّ هناك شباباً تركوا الشمال ولم يرد أن يتشرّدوا، وبرأيي لا يتحمّل جعجع مسؤولية مجزرة إهدن وهو أصيب قبل أن يصل". فليأخذ بنصيحة نجله النائب طوني فرنجية الذي قال في 8/10/2018: "المصالحة لا تقتصر على سمير جعجع كشخص بل هي مع ما يمثّل رئيس حزب "القوات اللبنانية" الذي حصد 15 نائباً"، متسائلاً: "هل نبقى فريقَين مسيحيّين متخاصمَين؟ وحتى لو كنّا حزبين لبنانيين متخاصمين وليس بالضرورة مسيحيَّين، الى متى سنبقى على خصام؟".
يبدو أنّ موقف "الإنكار" هذا ناجم عن شعور فرنجية بانعدام حظوظه بالوصول إلى كرسي بعبدا، وإن مارس مع الثنائي الشيعي "حزب الله" و"أمل" إنكاراً في السياسة ليس آخره محاولة تحوير مضمون بيان "الخماسية" الصادر عن السفارة الأميركية في بيروت. فالمواصفات التي وضعتها السفارة سابقاً والدعوة إلى رئيس إصلاحي لم يكن منغمساً في فساد السلطة ثم الدعوة إلى الانتقال إلى "خيار ثالث" بعد فشل آخر جلسة نيابية لانتخاب رئيس في 14/6/2023 بإيصال أحد المرشحين سليمان فرنجية أو الوزير السابق جهاد أزعور، جميعها مؤشرات تعكس حجم تراجع حظوظ فرنجية.
Veto خصمه في السياسة سمير جعجع وحليفه "اللدود" في "الخط" جبران باسيل يقطع الطريق عليه رئاسياً
كما أنّ توقيت هذا الموقف يبدو مرتبطاً بشعور فرنجية بالدور الذي لعبه Veto خصمه في السياسة سمير جعجع وحليفه "اللدود" في "الخط" جبران باسيل بقطع الطريق عليه رئاسياً جراء عجزه عن تأمين غطاء مسيحي. ما يعزّز هذه الفرضية قول فرنجية في المقابلة: "نحن مش خوارج... نحن مسيحيين أكثر منهم، نحن مسيحية الرئيس فرنجية والعروبة والعيش المشترك، نحن المسيحية هدف عنا، هني وسيلة وهني تجار المسيحية. (...) ما حدا بيشك بمسيحيتنا 1 % لا بالرقم ولا بشعبية، وإذا عينهم على قضاء زغرتا صرلون 30 سنة ما فاتوا عليه الأحزاب المارونية، هيدا لي موّتهم".
وهذا إنكار إضافي لواقع تيار "المردة" الذي سعى إلى التمدّد في جبل لبنان المسيحي من جبيل إلى كسروان وبعبدا وصولاً إلى زحلة، وانتهى الأمر به إلى بضعة مراكز يسكنها الغبار. الرقم يترجم في صناديق الاقتراع وعدد النواب، وإن ادّعى فرنجية أنّ لـ"المردة" 4 نواب، ولكن في الحقيقة ليس لديه سوى نائب حزبي وحيد هو ابنه طوني الذي "زمط" في معقله قضاء زغرتا حيث 3 مقاعد.
"الإنكار" ترافق في المقابلة مع "مكابرة" على حقيقة انعدام حظوظه إذ قال فرنجية: "أنا لن أنسحب وفريقنا لن يطلب ذلك، وعندما نصل إلى تسوية معينة يبنى على الشيء مقتضاه"، مضيفاً: "الظروف ما استوت". إنّه يدرك أنّ وصوله أضحى أشبه بـ"طبخة بحص" وسيبنى على الشيء مقتضاه. توصيفه لعلاقاته مع الخماسية في الحلقة قائم على:
* "الفرنسي اليوم على مسافة من الجميع وإذا وصلت إلى سدة الرئاسة يفرح".
* "موقف أميركا لم يتغيّر منذ اليوم الأول وهو ينصّ على أنّ لا “فيتو” على سليمان فرنجية وإذا وصل نتعامل معه".
* "السعودية ما بعتتلي إلّا كلّ شي خير".
* "انا بحب مصر لأن أمي مصرية والعلاقة ودّية وإيجابية".
لكنه تناسى أنّ الطرح الفرنسي لإيصاله سقط بالضربة القاضية وأطاح باتريك دوريل ورفاقه واستدعى إيفاد جان ايف لودريان. تناسى أنّ كلّ ما حكي عن توسعة الخماسية لتضمّ إيران بقي "هلوسات". تناسى أنّ كلامه عن العلاقات العائلية التاريخية مع المملكة العربية السعودية منذ زمن جدّه لم يصرف في أيّ مكان.
"الإنكار" لا يغيّر الحقائق بل وحدها جرأة الاعتذار هي التي تؤسّس لطيّ صفحة. "المكابرة" لا توصل إلى قصر بعبدا بل وحدها الظروف وموازين القوى. صدق فرنجية بقوله إنّها معركة "الخيار الإستراتيجي وما هي وجهة لبنان". فهل من مؤشّر لإيصال رئيس يعتبر نصرالله "سيّد الكلّ" منبهر بأنّه "يعيش في زمن السيد نصرالله"، يرى أنّ الأخير والرئيس بري أكثر حرصاً منه على مصلحة البلد وينعت المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي بـ"القائد"؟!