أيّهما أضرّ بالمواطن والاقتصاد وهيبة الوزارات، أن تُترك آلية التسعير للسوق، أم تُحدّد بمرسوم، وتُخرق يومياً "على عينك يا دولة"؟ لطالما طرحت على نفسي هذا السؤال كلّ مرّة اشتريت قارورة غاز. فسعر المبيع بمتاجر التجزئة يفوق ذلك المحدّد في "جدول تركيب أسعار المحروقات"، الذي تصدره وزارة الطاقة والمياه، بما لا يقلّ عن مئتي ألف ليرة. ويرتفع الفرق بين السعر الرسمي وسعر السّوق إلى ما بين 300 و500 ألف ليرة في حال طلب خدمة التوصيل إلى المنزل، والتركيب.
هذه التركيبة العجيبة في التسعير الموجودة فقط في المحروقات على أنواعها، بالإضافة إلى القمح (المدعوم) لغرض صناعة الخبز العربي، بدأت تهدّد بفقدان اثنين من أهمّ السلع: الخبز والغاز، وتحوّلهما إلى السوق السوداء. وهذا أمر لا مفرّ من حصوله عاجلاً أم آجلاً بسبب استمرار سياسة تحديد الأسعار والأرباح، أو ما يعرف بـ الجعالة"، وتحديداً بالنّسبة إلى موزّعي الغاز.
الجعالة على التوزيع والمبيع
يستورد لبنان سنوياً قرابة 250 ألف طن من الغاز. ويبلغ سعر مبيع قارورة الغاز بحسب الجدول الأخير لتركيب أسعار المحروقات، الصادر في 21 الشهر الجاري، 831 ألف ليرة. يتضمّن السعر جعالة بقيمة دولار واحد، تعادل 89500 ليرة، عن كلّ قارورة غاز لموزّعي المحروقات، و25 ألف ليرة عمولة البيع بالتجزئة في المحالّ والمتاجر. وبسبب تدنّي العمولة التي لا تتخطّى 3 في المئة من سعر السلعة النهائي، يحجم أصحاب المحال التجارية عن بيع الغاز أو يضيفون نسبة ربح تراوح بين 10 و15 في المئة، وبقيمة تتجاوز 100 ألف ليرة عند المبيع، خلافاً للقانون. والمواطنون "المغلوب على أمرهم" يشترون الغاز بسعر استنسابي بناء على أهواء التجّار والباعة. والوزارات المعنية، ولا سيّما الطاقة والاقتصاد، تتفرّج على هذه "المهزلة" المستمرّة على وسع الوطن، من دون أيّ تدخّل جدي.
لا تستوفي عناصر الكلفة
في المقابل "لم تعد جعالة موزّعي المحروقات المحدّدة بدولار واحد على سعر السوق تستوفي تغطية جميع عناصر التكاليف والمصاريف في ظلّ الغلاء ودولرة أسعار جميع السلع والخدمات والسلع"، بحسب رئيس نقابة العاملين في قطاع الغاز ومستلزماته فريد زينون. وممّا زاد الأمور سوءاً مع بداية فصل الصيف أمران أساسيان:
- تراجع المبيعات بنسبة 60 في المئة عمّا كانت عليه في فصل الشتاء نتيجة الانخفاض الطبيعي في الاستهلاك. وهذا ما رفع تكاليف إيصال كمّيات أقلّ من الغاز إلى المناطق المترامية الأطراف، ومن ثم يخفّض من الأرباح المحقّقة يومياً للموزعين.
- الارتفاع المستمرّ في أسعار مختلف السلع والخدمات، سواء تلك التي يستهلكها الموزعون وعائلاتهم في حياتهم اليومية، أو تلك المتّصلة بتأمين مستلزمات النّقل، كأسعار قطع الغيار وكلفة إصلاح الأعطال. إذ ارتفعت كلفة إصلاح ناقل الحركة للشاحنة مثلاً، من 75 دولاراً قبل العام 2020، إلى 130 راهناً. من دون أن يتبيّن أحد سبب الارتفاع بنسبة 42 في المئة لخدمات كانت ولا تزال تقدّم بالدولار النقدي. والأمر ينسحب أيضاً على بقية عمليات التصليح ودفع ثمن قطع الغيار، التي تشهد ارتفاعاً كبيراً بأسعارها، مقارنة بمرحلة ما قبل الانهيار.
الأسعار ترتفع 60 في المئة
الارتفاع الكبير والمستمر في الأسعار برغم ثبات سعر الصرف منذ أكثر من عام، أكّده تقرير الإحصاء المركزي الأخير. إذ أعلنت إدارة الإحصاء المركزي في رئاسة مجلس الوزراء، في بيان، أنّ مؤشّر أسعار الاستهلاك في لبنان لشهر نيسان 2024، سجّل ارتفاعاً بمقدار 1,7 في المئة بالنسبة إلى شهر آذار 2024. في حين أنّ التغيّر السنوي لمؤشّر أسعار الاستهلاك قد ارتفع في نيسان بنسبة 60 في المئة، مقارنة بشهر نيسان من العام 2023. بعبارة أخرى، زادت أسعار السلع الاستهلاكية 1.6 مرّة في غضون عام. والسلعة التي كان ثمنها على سبيل المثال 100 ألف ليرة، أصبح 160 ألفاً.
زيادة الجعالة
إزاء هذا الواقع، وللحدّ من الاستنسابية في التسعير بحسب التجار والمناطق، طالب زينون وزارتي الطاقة والأشغال بـ "زيادة الجعالة 40 سنتاً للموزعين وأصحاب المتاجر على السواء. فتصبح جعالة الموزع دولاراً و40 سنتاً، تعادل 125 ألف ليرة، وترتفع عمولة صاحب المتجر إلى 60 ألف ليرة". وبرأيه، فإنّ "هذه التعرفة عادلة في ظلّ الظروف التي يمرّ بها البلد، وتجنّب انقطاع المادة، أو بيعها في السوق السوداء بأسعار أعلى بكثير، وتوفّر على المواطن والاقتصاد المزيد من الخضّات".
هل الحلّ في تحرير الأسعار؟
تشكّل المحروقات، على مختلف أنواعها، السلع الوحيدة المستوردة التي تحدّد الدولة سعر مبيعها رسمياً، عبر وزارة الطاقة. وذلك على عكس كلّ المواد الأوّلية والسلع الاستهلاكية والمنتجات الخدماتية المنتجة داخلياً أو المستوردة من الخارج، وخلافاً لنظام الاقتصاد الليبرالي الحرّ الذي ينتهجه لبنان. وعلى النقيض من آلية تحديد الأسعار بشكل طبيعي بناءً على العرض والطلب. المبرّر الوحيد لاستمرار تحديد الأسعار الذي سمعناه من أحد المعنيين في القطاع هو: "حماية المحطّات وشركات الغاز الصغيرة، التي لا تتبع الشركات الكبيرة، من الإغلاق. ذلك أنّ عدم تحديد الأسعار سيتيح للمحطّات الكبيرة أو لتلك التابعة إلى الشركات من البيع بأسعار أدنى من بقية المحطّات، بسبب حجم المبيعات الكبير واستفادتها من وفورات الحجم وإمكانية تقديم العروض. كأن تقدّم قسائم الغسيل المجاني أو غيار الزيت مع كلّ عملية تعبئة بنزين أو مازوت أو شراء أطنان من الغاز. وهذا ما يؤدّي إلى إقفال المحطّات الصغيرة التي تشغّل مئات العمل والموظفين، وتشكّل مصدر عيش أساسياً لأصحابها". في المقابل، فإنّ استمرار تحديد أسعار المبيع، وتالياً الربح، يهدّد بين الحين والآخر بانقطاع المادّة أو تحوّلها إلى السوق السوداء، كما يحصل حالياً مع الغاز. فنتيجة الارتفاع المتواصل في أسعار السلع والخدمات، ولا سيما تكاليف الطاقة واليد العاملة، تصبح الجعالة (ربح أصحاب المحطّة) أقلّ من الكلفة الفعلية، فيتوقفون عن بيع المواد علناً وينتقلون إلى الخفاء (السوق السوداء) لبيعها بسعر أعلى. وهذا لا يكسر هيبة الدولة ويحمّل المواطن والمؤسسات المزيد من المشقّات لتأمين المادة التي لا غنى عنها فحسب، إنّما يحرم ستة ملايين قاطن على الأراضي اللبنانية من إمكانية شراء المحروقات بأسعار أدنى وخدمة أعلى، من أجل حماية بعض المحطات التي لا تشغّل أيّ عامل لبناني. وهو ما يتناقض مع المنطق، ويحمّل المواطنين في هذه الظروف المزيد من الأعباء غير المبرّرة. وعليه، فليس هنالك حلّ إلّا بتحرير الجعالة ووقف تحديد الأسعار من قبل وزارة الطاقة. وممارسة الدور الرقابي الفعلي على الشركات المستوردة والمحطّات من قبل وزارة الاقتصاد.
رب قائل إنّ "التوقّف عن تحديد الأسعار سيدفع بـ"الجشعين" إلى رفع الأسعار لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح. خصوصاً أنّ المستوردين المحدودين منضوون في "كارتيل" متجانس أكثر ممّا هو متنافس، وهذا صحيح من الناحية النظرية. إنّما عملياً ليس صحيّاً أن تبقى السياسات الاقتصادية مختبئة خلف إصبع التهديد بالاحتكارات. فلا هذه ولا تلك صحّية للاقتصاد. والمهمّة الأولى تبقى فتح الأسواق وتعزيز التنافس في ظلّ تطبيق قوانين وقف الاحتكارات، والوكالات الحصرية وتعزيز المنافسة وحمايتها بالمراقبة، وعدم السماح لأحد بأن "يأكل" السوق مهما كان كبيراً. وبذلك تتحقّق مصلحة المواطن والاقتصاد، وهذا هو الأساس.