لم أفاجأ عند زيارتي دولة الإمارات بالعمارات الشاهقة التي تلامس السُّحب، فقد سبق أن شاهدناها مراراً وتكراراً على التلفزيون. كما لم يدهشني تكامل التنظيم في شتّى المجالات بما يشبه عمل خليّة النّحل، وهذا أيضاً كان قد ترسّخ في أذهاننا من توصيف أقاربنا المسافرين. أكثر ما توقّفت عنده هو إمكان إجراء "المعاينة الميكانيكية" في أيّ وقت من اليوم، أثناء التبضّع أو التنزّه في أحد "المولات"، من دون إضاعة يوم عمل كامل، كما يحصل في لبنان، وحرق الأعصاب لدى الانتظار ساعات في صفوف لا تنتهي. مع ما يرافق "النطرة" من محاولات "تشبيح" السماسرة والمنتفعين، الذين نموا كالفطريات في جوار مراكز المعاينة المعدودة لدينا.
خلافاً للبنان المحصورة فيه "المعاينة الميكانيكية" بشركة واحدة وأربعة مراكز فقط على كامل مساحته، تنتشر عشرات مراكز فحص المركبات في مدينة دبي وحدها، وهي تعود إلى أكثر من شركة. وهذا ليس الفرق الوحيد، إنّما كلّ واحد من هذه المراكز يُعنى أيضاً بتسجيل المركبات وإصدار الملكية ونقلها وتجديدها، وإصدار شهادة لحيازة المركبات، وإصدار حيازة لبدل مفقود أو تالف، وتعديل بيانات ملكية المركبات، وتغيير رقم المركبة وإعادة تأمين السيارة. وتتم هذه العملية التي تتطلّب أياماً في لبنان والتنقل بين مراكز المعاينة ومصلحة تسجيل السيارات والآليات، "النافعة"، بمنتهى السهولة، وخلال دقائق معدودة في دبي أثناء التنزه أو احتساء القهوة.
خلافاً للبنان المحصورة فيه "المعاينة الميكانيكية" بشركة واحدة وأربعة مراكز فقط على كامل مساحته، تنتشر عشرات مراكز فحص المركبات في مدينة دبي وحدها.
تهديد السلامة العامة
تعداد الفروق بين لبنان والإمارات، أو بينه وبين أيّ من البلدان التي تسهّل أمور مواطنيها، لا يهدف إلى المقارنة فقط، انطلاقاً من نظرية "الفنّ للفنّ". إنّما الهدف يكمن في إلقاء وميض من الضوء على نقاط الضعف في الإدارة "السياسية" اللبنانية، التي بدأت أخيراً تهدّد بإقعاد الوطن أو شلّه. ملايين المركبات الآلية الثقيلة المتوسطة والخفيفة تسير على الطرق اللبنانية من دون أدنى معرفة بمطابقتها لشروط السلامة العامة ومواصفات الأمان بسبب توقّف المعاينة منذ أيار 2022. ومن كان متخلّفاً عن معاينة آليّته قبل هذا التاريخ وتسديد رسوم الميكانيك السنوية، للتعقيدات التي ذكرناها سابقاً، محروم اليوم من دفع الرسوم ومعرّض لاحتجاز آليّته على أحد حواجز الحملة الأمنية المستجدة. وهذا كلّه يعيد إلى الواجهة ضرورة الإسراع في إطلاق مناقصة المعاينة الميكانيكية.
النقص في المناقصات
إن كان من الصعب بالنسبة إلى لبنان جمع مراكز المعاينة مع "النافعة" في مكان واحد، لتسهيل أمور المواطنين وتخفيف الأعباء المادّية عنهم، فأقلّ الإيمان تحديث دفتر شروط المناقصة الميكانيكية ليراعي متطلّبات العصر وحاجات المواطنين وأحوالهم. وليس على غرار دفتر الشروط المنقوص الذي أطلق في 31 آب 2023. فقبل قرابة العام، أطلقت وزارة الداخلية والبلديات مناقصة المعاينة الميكانيكية، لتلزيم مراكز المعاينة الأربعة في الحدث والزهراني وزحلة وزغرتا. وعلى الرّغم من عدم مراعاتها متطلّبات العصر، تميزت مناقصة 2023 من سابقتها اليتيمة التي أجريت في العام 2015، (المناقصة لم تستكمل وشرّعت استمرار شركة "فال" بإدارة المراكز بالتمديد إلى العام 2022)، بالعديد من الإيجابيات، أهمها:
- ملاءمتها مع تشجيع مشاركة المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم وتوزيع المخاطر، وذلك من خلال الاكتفاء بطلب خبرة مماثلة في موضوع الصفقة. والاكتفاء بطلب الحدّ الأدنى الممكن من الملاءة المالية لانطلاق المشروع وهو: 500 ألف دولار لكلّ مركز، ومليونا دولار لمركز الحدث.
- إمكان التقدم لالتزام واحد من المراكز الأربعة. أي بإمكان تسلّم المراكز من 4 شركات مختلفة.
- إجراء المناقصة على أساس السعر الأدنى لكلّ مركز على نحو يسهّل مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم ويوزع المخاطر بالنسبة إلى هيئة إدارة السير.
- وضع آلية تقوم على الكفاءة لاستيعاب ما أمكن من عمّال المشغل الحالي انسجاماً مع مبادئ قانون العمل وحقوق العمال والاستفادة إلى الحد الأقصى من خبرات العمال.
المنافسة أهم
على الرغم من هذه الايجابيات المستجدّة في إطلاق الجهات الشّارية المناقصات، لا تزال "نقاط الضعف أكبر بكثير"، بحسب مصادر متابعة. وفي مقدمتها عدم اعتماد "كراجات" تُعطي رخصاً بناء على شروط محدّدة لإجراء المعاينة الميكانيكية، كشرط محوري أو أساسي في دفتر الشروط. "إذ بدلاً من حصر المعاينة في المراكز الأربعة، ولو بإشراف إدارات شركات مختلفة، كان يجب تضمين دفتر الشروط بنداً يسمح لأيّ مَشغّل تصليح سيارات، يمتلك المواصفات المطلوبة والتجهيزات الضرورية في أيّ منطقة من المناطق اللبنانية، أن يتقدّم للمناقصة ويحوز رخصة تشغيل مركز للمعاينة الميكانيكية. ومن الممكن بسهولة جعل صاحب المشغل، أو الكاراج الذي يفوز، يقسم اليمين بالتزام المعايير المعتمدة والشفافية وذلك على غرار قسم اليمين الذي يؤديه خبراء السير". أكثر من ذلك "كان بالإمكان عدم حصر الجعالة التي يتقاضاها المستثمر برقم موحّد، مع تحديد تعرفة عادلة للدولة. وبهذا الشكل لا تنتشر مراكز الفحص في كلّ المناطق بما يسهّل وصول المواطنين وعدم تكبّدهم مصاريف الانتقال عبر المحافظات فحسب، إنما أيضاً تتنافس هذه المراكز على تقديم الخدمة الفضلى من ناحيتي السرعة والدقّة وبقيّة الخدمات المتّصلة باستحداث التجهيزات وتطورها. كما تستولد عشرات بل مئات فرص الاستثمار والعمل أمام أصحاب الرساميل والشباب الراغبين في العمل. وتتيح مستقبلاً تكبير هذه الاستثمارات وزيادة خطوط الفحص في المراكز، وهذا ما يسهم في تحقيق منفعة للجميع. وعليه، يرتفع عدد مراكز الفحص وتُلغى الاحتكارات، وتحفّز الاستثمارات وتزداد إيرادات الدولة.
على أنّ التسليم جدلاً بتجاهل بعض الذين في السلطة أهمّية المنافسة في تطوير الاقتصاد، واتجاههم عن جهل أو سوء نية إلى تغذية الاحتكارات، لم يشكّلا حلّاً في الماضي ولن يشكّلاه مستقبلاً. فها هي مناقصة المعاينة التي أطلقت في آب 2023، يأكلها الزمن وتنضمّ إلى زميلتها التي أطلقت في العام 2015، وقد أحبطت واستمرّت الشركة المشغلة للمراكز "فال" في إدارة المراكز من خلال التمديد مدة سبع سنوات، فهل تعود "فال" إلى المراكز الأربعة من جديد نتيجة الحاجة، وبأعذار تتصل بضرورة تسوية أوضاع السيارات المخالفة إلى حين إطلاق مناقصة جديدة؟