تراهن قوى سياسية في لبنان على عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتتهرّب من أيّ اتفاق مع الآخرين على انتخاب رئيس جديد لاعتقادها أنّ عودة ترامب قد تمكّنها من النفاذ بمرشّحها، لأنّ الظروف الراهنة تصبّ في مصلحة مرشح الفريق الآخر، وهو رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، أو من يشبهه.
على المقلب الآخر، يراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على فوز ترامب بالرئاسة بعد المأزق الذي وصلت إليه علاقته بالإدارة الأميركية الحالية ورفضه الدعوات التي وجهها إليه الرئيس جو بايدن في ما يتصل باجتياح رفح، ورفضه مقترح وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه "حماس". وهو يدرك قبل غيره أنّه بمجرّد توقّف إطلاق النار في غزّة سيتوقّف تلقائياً على الجبهة الشمالية مع لبنان، ويعود الوضع تلقائياً إلى ما كان عليه قبل عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي. وفي هذه الحالة، لا حاجة إلى خريطة الطريق الفرنسية المطروحة على لبنان وإسرائيل لتنفيذ القرار الدولي 1701، والتي رفضها لبنان بطريقة لبقة، لأنّها جاءت في نسختها الأولى ثم في نسختها المعدّلة منحازة لإسرائيل إلى درجة أنها غيّرت في متن القرار 1701 بالغاء الفقرة التي تقول بوجوب أن تنسّق قوات اليونيفيل مع الجيش اللبناني عند تسييرها دوريات أو اتخاذها أيّ إجراءات في منطقة جنوب الليطاني الحدودية.
هوكستين والرّحال
وفي هذا الإطار، فإنّ الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الوسيط في موضوع حدود لبنان البرية الجنوبية وتنفيذ القرار 1701 ينتظر حصول وقف النار في غزّة حتى يشدّ الرحال إلى لبنان لاستئناف مهمّته، مع العلم أنّه كان أبلغ إلى بعض مفاتيحه في طبيعة هذه المهمّة أنّها تنحصر بالحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، وأنّ ملفّ انتخابات رئاسة الجمهورية هو في يد وزارة الخارجية الأميركية. ولذلك فإنّ الاعتقاد السائد هو أنّ الملف الرئاسي اللبناني كان، ولا يزال، في القبضة الأميركية برغم حركة المجموعة الخماسية العربية الدولية التي تضم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر. وفي هذا السياق برزت حركة السفيرة الأميركية ليزا جونسون العائدة من اجتماع السفراء الأميركيين حول العالم في واشنطن، إذ تشدّد في لقاءاتها هذه الأيام على وجوب انتخاب رئيس للبنان بين الشهر الجاري والشهر المقبل حتّى لا يتأخّر إنجاز هذا الاستحقاق إلى ما بعد الانتخابات الأميركية.
ويتوقّع البعض أن يحصل دفع أميركي ـ قطري إلى انتخاب رئيس لبناني على قاعدة التوصّل إلى صيغة لتطبيق القرار 1701 في الجنوب، بضمان سياسي يتمثّل بانتخاب رئيس للجمهورية يقبل به الثنائي الشيعي. وفي هذا المجال يبرز الحراك القطري الراهن والذي يتمثّل بتوجيه دعوات إلى عدد من القيادات اللبنانية الدينية والسياسية لزيارة الدوحة والبحث معها في التطورات اللبنانية.
انسداد يستدرج راعياً
وفي هذا السياق، يقول قريبون من مرجع لبناني كبير إنّ انعقاد طاولة تشاور أو تفاهم أو حوار قبل الذهاب إلى جلسات لانتخاب رئيس الجمهورية ليس شرطاً مسبقاً لحصول هذا الانتخاب، وإنّما هو شرط مسبق للوصول إلى الانتخاب، لكن في ظلّ رفض بعض الفرقاء السياسيين هذه الطاولة يسود انسداد في الأفق الرئاسي كذلك الذي سبق انعقاد مؤتمر الدوحة عام 2008 إذ رعى الجانب القطري يومذاك حواراً لبنانياً ـ لبنانياً انتهى إلى اتفاق كان من ضمنه انتخاب قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وربما يكون لبنان الآن في حاجة إلى راع ما قد يكون الدوحة أو غيرها للوصول إلى اتفاق مماثل. فالقطريون لديهم الاستعداد للمساعدة في هذا المجال، لكنّهم جزء من المجموعة الخماسية، ولا أحد من أطرافها يمكن أن يدّعي أنّ له تأثيراً على جميع الفرقاء السياسيين، ولكن يجب أن يكون هناك أحد يستطيع أن يتكلّم مع الجميع ويقنعهم بالجلوس بعضهم مع بعض للتوصل إلى تفاهم. وعندما طرح رئيس مجلس النواب نبيه بري الحوار في بداية الاستحقاق الرئاسي لم يكن هناك نية للتسويف أو تعقيد الأمور وتمييعها، إذ لم يكن قد أعلن يومذاك أصلاً دعمه لترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وإنّما أراد من هذه الدعوة أن يتحاور الجميع في ما بينهم للاتّفاق على إنجاز الاستحقاق الرئاسي بالتوافق على رئيس أو بالتنافس بين مرشحين وليفز عندئذ من ينال تأييد الأكثرية النيابية، سواء كانت أكثرية مطلقة أم مرموقة.
ويقول قريبون من المرجع الكبير إنّ البلاد تحتاج إلى رئيس يستطيع وضع البلاد على سكّة الحلّ، وهذه السكّة تستوجب انتخاب رئيس قادر على التحاور مع الجميع وعلى التسامح والانفتاح على الجميع ولا تكون لديه أيّ عقدة في التعاطي على الأشقّاء العرب ومع كلّ الدول الصديقة للبنان، فلا يتوهمّن أحد أنّ مجرد انتخاب رئيس سيتوافر الحلّ المطلوب للأزمة، ولا يراهنن أحد على أنّ الدول الشقيقة أو الصديقة جاهزة أو ستبادر فور انتخاب الرئيس إلى رفد لبنان بودائع في مصرفه المركزي وتقديم الدعم المالي له كما كان يحصل في السابق. ففي أحسن الحالات أنّ هذه الدول ستتحدّث مع لبنان عن استثمارات لا عن مساعدات، لأنّ معالجة الأزمة بات مدخلها تحقيق النمو في الاقتصاد بعد إقامة بيئة سياسية مستقرّة تشجع عودة الاستثمارات إلى لبنان.
ويخلص القريبون من المرجع الكبير إلى التأكيد أنّ المنطقة برمّتها يعاد رسمها حالياً، وبالتالي لا يمكن بيروت النهوض إلّا بتفاهم بين كلّ الأطراف، ففي السابق كان لبنان يشكّل نموذجاً في الاقتصاد والسياسة والإعلام، وكان ملاذ الكثيرين في المنطقة، أمّا اليوم فالوضع بات مختلفاً لأنّ عملية إعادة رسم المنطقة ستغيّر في مواقع كلّ الدول وأدوارها، ومنها موقع لبنان ودوره.