لم يكد الحبر الذي وقّع به الاتحاد الأوروبي الهبة المليارية لمساعدة لبنان في ملف النزوح يجفّ، حتّى أعلنت واحدة من أكبر المنظمات الأممية تقليص دعمها للنازحين بشكل حادّ. ففي صباح اليوم التالي للإعلان عن هبة المليار يورو، بدأ النازحون يتلقّون على هواتفهم الجوّالة رسالة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تبلغهم بالتغييرات في تغطية الرعاية الصحّية للأشخاص المعروفين لديها بسبب نقص التمويل العالمي.
قبل نحو أسبوع، وتحديداً في 3 الشهر الجاري أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR عن تغييرات جذرية في تغطية الرعاية الصحّية للأشخاص المعروفين لدى المفوضية، بدءاً من 1 حزيران 2024، عازية السبب إلى نقص التمويل العالمي. وعليه، ستخفّض المفوضيّة تغطية الرعاية الصحية الاستشفائية في العام 2024 للأشخاص المعروفين لديها. وستُعطى الأولوية بهذا التمويل المحدود للتدخّلات التي من المرجح أن تكون ذات تأثير كبير على المرضى.
التخفيض الحاد للاستشفاء
"الأشخاص المعروفون" الذين يحتاجون إلى الرعاية الاستشفائية (باستثناء الولادات) سيدفعون نسبة مئوية متزايدة من فاتورة المستشفى. ويشمل ذلك رسوم القبول الأولية بقيمة 100 دولار، بالإضافة إلى 40 في المئة من مبلغ فاتورة المستشفى. على سبيل المثال، إذا كانت الفاتورة الإجمالية للقبول 1000 دولار، فسيدفع النازح 100 دولار، يضاف إليها 360 دولاراً، تشكّل 40 في المئة من 900 دولار المتبقّية.
أمّا بالنّسبة إلى الولادات ورعاية الأطفال الحديثي الولادة والتهديدات الوشيكة للحياة أو الأطراف، فسيتمّ الدعم بنسبة 50 في المئة من التكلفة الإجمالية. ولن يتمّ دعم أيّ رعاية صحّية أخرى، بما في ذلك الرعاية الاختيارية والدعم للحالات المزمنة بعد الآن. كما سيُخفّض الدعم للحالات الطبية العالية التكلفة. وستوفر المفوضيّة تغطية الرعاية الصحّية فقط في المستشفيات المتعاقدة. إذ لن يكون هناك أيّ تغطية للمرضى الذين تلقّوا العلاج في مستشفى من خارج شبكة المستشفيات المتعاقدة مع المفوضيّة، حتّى في حالات الطوارئ المنقذة للحياة.
الانعكاسات على معيشة النازحين
التداعيات المتوقّعة لمثل هذا القرار ستكون مكلفة جداً على النازحين السوريين. إذ لطالما كان لسان حالهم "الله يبعدنا عن الحكمة (الاستشفاء)، والحكومة". فالاضطرار إلى تلقّي العلاج في المستشفيات، أو إجراء أيّ عمل جراحي يكلّف مبالغ طائلة لا قدرة لمحدودي الدخل الذين يشكلون 99.9 في المئة من النازحين على تحمّلها، وهم مجبورون على تسديد الكلفة من نفقتهم الخاصة، خصوصاً أنّهم غير مشمولين في الضمان الاجتماعي، وغير معترف بهم من قبل وزارة الصحة، أو أيّ من الجهات الضامنة الأخرى.
... وعلى المستشفيات الحكومية اللبنانية أيضاً
تخفيض الدعم الاستشفائي الأممي لأكثر من مليون شخص "سيؤثّر سلباً في القطاعين الصحي والاستشفائي، ولا سيما المستشفيات الحكومية"، يقول الرئيس السابق للجنة الصحية النيابية، ورئيس "حملة الصحّة حق وكرامة" الدكتور إسماعيل سكرية. "فاستمرارية هذه المستشفيات العامّة تعتمد بشكل شبه كلّي على المرضى السوريين الذين يحصلون على تغطية استشفائية من برامج الأمم المتحدة، وفي مقدّمتها المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين UNHCR". وستتصاعد الأزمة بشكل تدريجي، برأي سكرية "تاركةً تأثيرها السلبي على المواطنين اللبنانيين أيضاً. إذ بسبب موازنة وزارة الصحّة المحدودة جداً، وتقلّص المداخيل في القطاعين العام والخاص، مقارنةً بارتفاع تكاليف الاستشفاء الخاص، ستكون الوزارة والجهات الضامنة عاجزة عن تلبية الرعاية الصحّية الضرورية، وتأمين المتطلّبات الاستشفائية لكثير من اللبنانيين". وذلك في حال انهيار المستشفيات الحكومية ومراكز الرعاية الأولية، التي لا تزال تؤمّن الاستشفاء بكلفة مقبولة، مقارنة بالمستشفيات الخاصة والمبالغ التي تطلبها عن الأعمال الطبية نفسها.
كابوس الاستشفاء
على أن تخفيض التمويل الاستشفائي للنازحين سيكون بمنزلة نزع "ورقة التين عن عورة" النّظام الصحّي اللبناني. فهذا القطاع المنخور بالفساد، والقائم تاريخياً على "نفخ" الفواتير وعملية تحويل الأموال العامّة إلى جيوب بعض المنتفعين من أصحاب المستشفيات، ومستوردي الدواء والمعدّات الطبية... لم يصلّح نفسه بنفسه كما كان يفترض أن يحصل عقب الانهيار. "وما من حلّ في الأفق إلّا بتحرير القطاع الصحّي من التداخل السياسي الطائفي برغم صعوبته أو شبه استحالته"، بحسب سكرية. "فعندما يتحرّر القطاع من التدخلات، ويتمّ إعطاء ذوي الشأن الصلاحيات لإدارته، ويبدأ العمل على تطبيق الإصلاحات البديهية، يمكننا التفاؤل خيراً". ومن هذه الإصلاحات يبرز بحسب سكرية:
- إعادة تفعيل مختبر الدواء لقطع الطريق على التهريب ونقل الأدوية بـ "الشنطة".
- تغيير مجالس إدارة المستشفيات الحكومية المجدّد لها عقداً بعد آخر، والتعيين من خارج نطاق التدخّل السياسي الطائفي.
- تشديد الرقابة، وإطلاق يد التفتيش المركزي وحمايته من التدخلّات.
ساعتذاك يمكننا القول إنّنا بدأنا نسلك طريق الحلّ باتجاه تقديم رعاية صحّية تليق بالإنسان وكرامته.
البناء على تراكم الأخطاء
خلافاً للمنطق الطبيعي للإصلاح، الذي يفترض البناء على قاعدة صلبة ونظيفة، يتمّ الإصلاح في لبنان على تراكم الأخطاء. فبدلاً من أن يؤدّي الانهيار إلى تخفيض الكلفة الصحية، يجري "الاستقتال" لزيادة إيرادات الجهات الضامنة من أجل تغطية النفقات التي عادت "منفوخة" كما كانت عليه قبل الانهيار. وذلك "كالعادة منذ الستينيات"، يقول سكرية. "إذ نستمر في البناء على تراكم الأخطاء". ففي ملف الدواء تحديداً، باءت بالفشل جميع محاولات الإصلاح وتخفيض كلفته على الجهات الضامنة بشكل أساسي. فأحبط مجلس النواب في العام 1960 اقتراح قانون إصلاح قطاع الدواء المقدم من النائب فريد جبران. كذلك فعل في العام 1971 مع وزير الصحة إميل البيطار الذي استنجد به لتمرير خطة كسر احتكار استيراد الأدوية وإمكان سحب رخص استيراد الأدوية بغية توفيرها عند الضرورة، فلم يكتمل النصاب وطارت الجلسة، وطار معها البيطار من الحكومة بعدما امتنع المستوردون عن توفير الأدوية، وتحوّل الدواء إلى السوق السوداء، وصولاً إلى العام 1998 حين أُفشل تمرير إقرار المجلس الوطني للدواء.
إزاء الفشل الذريع في إصلاح القطاع الصحّي بشقّيه الاستشفائي والدوائي، وفي ظلّ المساعدات الأممية "الزئبقية"، يبدو أنّ المشكلات لن تفضي إلى أيّ حلول، بل ستولّد المزيد من المشكلات. وسيبقى لبنان "يرقص" تائهاً عند حافة الهاوية.