19 عاماً مضت على مشهدية "8 آذار" و"14 آذار" في لبنان، وقد شهدت الكثير من خلط الأوراق على وقع: "طاولات حوار"، "ورقة مار مخايل"، "حرب تموز"، معادلة "س – س"، قاعدة "ربط النزاع"، "غزوة 7 أيار"، "اتفاق الدوحة"، "عراضة القمصان السود"، اغتيالات في صفوف "14 آذار"، سير بعض قادة هذه الأخيرة بـ"ابن الخطّ" سليمان فرنجية في السباق الرئاسي عام 2014، ما دفع بالبعض الآخر إلى كسر تهميشه عبر إيصال العماد ميشال عون إلى بعبدا، "اتفاق معراب"، تظاهرات "طلعت ريحتكم" المثقلة بعلامات الاستفهام وصولاً إلى حراك "17 تشرين".
أمام هذه المحطّة الأخيرة وما رافقها من حراك في الشارع وظهور مجموعات "شي بروس شي بلا روس"، انهيار غير مسبوق للدولة ومؤسساتها وكلّ القطاعات فيها، "زلزال النيترات" في 4 آب، تعليق الرئيس سعد الحريري العمل السياسي، توهّم كثيرين أنّ مشهديّة "8 آذار" و"14 آذار" ولّت إلى غير رجعة. فيما عمد بعضهم إلى حرف المعركة عن جوهرها السياسي ورفع شعار "كلّن يعني كلّن" لتصوير أنّ جوهرها إصلاحي وإداري ومالي ومصرفي، وهي معارك فرعيّة على أهمّيتها.
إلّا أنّ حرب "7 أكتوبر" وإقحام "حزب الله" لبنان فيها أكّدا المؤكّد من أنّ الصراع سياسي بامتياز. عاد معظم من ضلّوا الطريق إلى المربّع الأول، أي جوهر المعركة المستدامة في لبنان هو سياسي قبل أيّ شيء آخر، خصوصاً بعد الفشل المدوّي لحراك "17 تشرين" وتشرذم صفوفه.
مشهديّة الصراع، اليوم، هي نفسها كما العام 2005 بين فريقي "8 و14 آذار"، وإن اختلفت التسمية والشكل وبعض الوجوه. إنّها صراع بين فريقي الممانعين والسياديين وبين مشروع "شكراً سورياً" بالأمس "ووحدة الساحات"، اليوم، ومشروع "لبنان أولاً". وإن كان فريق "8 آذار" يحافظ على تماسكه في ظلّ "الكابتن" "حزب الله"، ففريق "14 آذار" اهتزّت تشكيلته الأساسية جراء اعتزال الحريري واختيار الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الجلوس على مقاعد الاحتياط، فبقي رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع وحيداً كلاعب ارتكاز إلى جانب لاعبي الـBench.
مشهديّة الصراع، اليوم، هي نفسها كما العام 2005 بين فريقي "8 و14 آذار"، وإن اختلفت التسمية والشكل وبعض الوجوه.
بعض هؤلاء أثبت أنّه يستحق شرف خوض مباراة سيادية مفصلية، فيما دخل البعض الآخر أرض الملعب مثقلاً برواسب السنوات التسع عشرة وموروثات تاريخية أو بـ"وسواس" الخوف من "7 أيار" أو بالحسابات الانتخابية، فوقع في فخ اللعب الفردي على حساب التعاون الجماعي متوهّماً أنّه بذلك يمكنه إظهار مهارات يمتلكها و"ينجّم".
هذا التشبيه ينطبق على لقاء معراب في 27/4/2024 بعنوان "القرار 1701 دفاعاً عن لبنان" الذي تداعت عبره "القوات" مع القوى السيادية في الـ momentum الصحيح لملاقاة المساعي الدولية الضاغطةمن أجل تجنيب لبنان آتون الحرب عبر تفعيل هذا القرار، خصوصاً أنّه أتى قبيل زيارة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه. فكان اللقاء بمنزلة رفع الصوت للقول للمجتمع الدولي إنّ هناك شريحة لبنانية وازنة داعمة لهذا القرار، بالفعل لا بالقول كما تسمعون في السراي وعين التينة، حيث تحوّل الرئيس نبيه بري عبر تأكيده لسيجورنيه ربط لبنان بغزّة إلى ناطق باسم "حزب الله" لا باسْم اللبنانيين، لأنّ قراراً كهذا لم يطرح على مجلس النواب ليصوّت عليه فيعطيه مشروعية شعبية مستمدّة من صناديق الاقتراع.
أتت مقرّرات اللقاء الوطني في معراب من رحم مبادئ "14 آذار"، وهي تصلح لتكون خارطة طريق لمشروع المواجهة السياسِيَّة الديمُقراطيَّة الذي دعت إليه في وجه: تفكُّكِ المؤسسات، الفراغ، السلاحِ غير الشرعي، التسيُّب على الحدود، بقاء عنوان المقاومة ذَريعَةً لانفلاش الجزر الأمنيّة، مصادرة قرار الحرب والسِّلْم من قبل فصيلٍ لبنانيٍّ يتلقّى أوامرَهُ من الخارج، ويزجُّ باللبنانيين في مسلسلِ حروب لا ينتهي، آخرُ فصولِهِ ما يجري اليومَ في جنوبِنا الحبيب.
من باب الثوابت، جدّدت تأكيد:
- الدعوة إلى "الشروع في سحب السلاح خارج مؤسسات الدولة، لما يشكّل من تهديد للسيادة اللبنانية واعتداء صارخ على أمن الشعب اللبنانيِ برمتِه".
- ثقة اللبنانيينَ جميعاً بالجيش وقيادتِهِ وأفرادِهِ وبدوره كصاحب الحقِ والواجبِ بحمايةِ الحدودِ والسيادةِ واللبنانيَينِ من أيِّ تعدٍّ أجنبيٍّ، لا سيما من قِبل إسرائيل.
- تحميل الحكومة اللبنانية وحدها مسؤولية تَطْبيق وتَنفيذ القوانين اللبنانية والقرارات الدوليةِ. فطالبتها بـ:
تطبيقاً للقرار 1701، كاملاً، إِصدار الأَوامر بنشر الجيش اللبنانيِ تحت خط الليطاني جنوباً وعلى كامل الحدود مع إسرائيل.
تعزيز الرقابة على كاملِ الحدود مع سوريا والعمل على ضبط المعابر الشرعيّة وإقفال جميع المعابر غير الشرعية.
تنفيذ خطّة مستعجلَة وحاسمة لإعادةِ السوريينَ المقيمينَ على الأراضي اللبنانيَّةِ بطريقة غير مشروعة إلى ديارهم.
كثيرون حاولوا ضرب مفاعيل لقاء معراب وتفريغه من مضمونه عبر إلهاء اللبنانيين بالشكل ومروحة الحضور. إن كان الأمر غير مستغرب من "حزب الله" ومن يدور في فلكه، فمن المحزن أن يتلهّى الذين من المفترض أنّهم في صميم "14 آذار"، بالصغائر، بعضهم لعِقده المزمنة والبعض الآخر لحساباته السياسية والانتخابية الضيّقة، إذ عمدوا إلى تنظيم حملة مبرمجة لمقاطعة اللقاء بلغت حدّ الضغط على كثيرين للتراجع عن تأكيد حضورهم.
أظرفُهم من حاول إضفاء بعدٍ سياسي فكري لتغليف عدم مشاركته تمثّل في رسالة "الحكم على النوايا" قبل انعقاد اللقاء، وجّهها النواب السابقون أحمد فتفت، وأنطوان اندراوس، ومصطفى علوش، وفارس سعيد. فإذ اعتبروا أنّ "المعركة اليوم هي معركة استقلال وتحرير القرار الوطني من التسلّط الذي تمارسه إيران عن طريق حزب الله"، تخوّفوا من أن يؤدّي "تطبيق القرار 1701 بشكل قسري أو غير توافقي إلى ارتداد الحزب في الحالتين للإطباق على الداخل كثمن لعدم استطاعته تحقيق نصر في ساحة المعركة"!
* يرفعون السقف ويزايدون عبر المطالبة بالتحرّر من الاحتلال الإيراني ويتخوّفون من تطبيق قرار دولي ويستسلمون أمام فرضية تكرار "7 أيار"!
* يعتبرون أنّ القرار 1701 قرار إجرائي رغم أهمية تطبيق مندرجاته، فيما الأهم استمرار اختطاف لبنان ودولته وقرارها الحر لمصلحة إيران عن طريق حزب الله، ويعيدوننا بالذاكرة إلى حجة الجنرال عون حين قرّر عدم المشاركة في"لقاء قرنة شهوان" لأنه اعتبر سقفه منخفضاً!
* يدعون إلى الالتفاف حول اتفاق "الطائف" رغم أنّ الـ 1701 هو أحد أوجه تطبيق الطائف، فهل المطلوب الالتفاف أم التطبيق؟
* يتخوّفون من الكلام عن اللامركزية الموسعة – التي لم يتم التطرّق إليها في اللقاء- رغم وجودها في صميم اتفاق "الطائف"، معتبرين أنّها تثير جدلاً لا طائل منه، فهل يصرّون على الاستسلام أمام المتعنّتين لتطبيق "الطائف"؟
* يتحدّثون عن المطالبة برفع الاحتلال الايراني كأنّ 1701 هو مرتبط بالميليشيات الفنزويلية!
في الحقيقة، يصحّ بهؤلاء وبكلّ من تراجع عن المشاركة في لقاء معراب لحجج وأعذار واهية، قولُ السيد المسيح: "مرتا مرتا تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد." مقرّرات معراب خير حجر زاوية لبناء معارضة مسؤولة ومترفّعة ومتماسكة، فهل يعقل أن يستمر في رميها بالحجارة بعض الذين يحاضرون في السيادة؟!