مع دوران الوضع اللبناني على نفسه، سياسياً وأمنيّاً واقتصاديّاً وعلى كل المستويات الأُخرى، ومع مراوحة الأفكار والتسويات والحلول والمبادرات الداخلية والدولية وتشابكها، لا بدّ من محاولة إيجاد فسحة للتفكير الهادئ خارج الضغط اليومي الذي يستهلك الأقلام والمواقف ويشوّش الرؤية والآراء.
قد تكون المشكلة اللبنانية تجرّ نفسها منذ تأسيس دولة لبنان الكبير قبل قرنٍ ونيّف، وتجترّ إنتاجها عند كل مفترق وطني بوتيرة متكررة أقصاها عشرون سنة، وجوهرها التصادم بين فكرتَي الحياد والدخول أو التورّط في الصراعات، وتظهر الآن في أوضح تجلّياتها من خلال ربط لبنان بحرب غزة ومشروع إيران الإقليمي.
وفي استعادة سريعة لتعاقب مراحل التوتر والاستقرار في لبنان، يتبيّن أن اهتزاز الوضع اللبناني الداخلي كان دائماً مرتبطاً بالمشاريع والأحلاف الخارجية، سواء في "ثورة 1958" أو "حروب 1975 - 1990" وما بعدها من حروب الجنوب وصولاً إلى اليوم.
وأسوأ هذه الحروب المتلاحقة كانت تلك التي ارتبطت بما يُسمّى "حلف الأقلّيات"، وقد عاناها اللبنانيون، وخصوصاً المسيحيّين منهم، بما أنتجت من مآسٍ وويلات.
قد تكون المشكلة اللبنانية تجرّ نفسها منذ تأسيس دولة لبنان الكبير قبل قرنٍ ونيّف.
وكانت لهم في هذا "الحلف" تجارب ثلاث مُرّة، انقضت إثنتان منها ولا تزال الثالثة مستمرّة.
التجربة الأولى كانت اضطرارية حين دفعهم الخطر الوجودي إلى الانفتاح على إسرائيل (ربّما يصفها البعض بحلف يهودي - مسيحي)، وكانت النتيجة كارثية بخسارتهم أهم رموزهم بشير الجميّل وإضعاف حضورهم ودورهم.
التجربة الثانية كانت بعد "حرب السنتين" 1975 - 1976، من خلال الانفتاح (الاضطراري أيضاً) على نظام حافظ الأسد بطابعه الأقلّوي الحاكم بشعارات الأكثرية العربية (يصفها البعض بحلف علوي - مسيحي)، وكانت النتيجة تهجيراً ودماراً وقوافل شهداء.
أمّا التجربة الثالثة المستمرة بتعرّج، وهي بدأت تلفظ أنفاسها رغم محاولات إنعاشها، فتظهّرت بالتحالف الأقلّوي تحت عنوان "ورقة التفاهم" بين حزب الله والتيّار العوني 2006 (تمّ وصفها بحلف شيعي - مسيحي)، وكانت في حقيقتها موجّهة ضدّ المكوّنات الأخرى، من سنّة ودروز ومكوّن مسيحي معارض، ولا تزال نتيجتها ماثلة في هدم مؤسسات الدولة ومصادرة سيادتها وشرعية قرارها في الحرب أو السِلم، تحت هيمنة السلاح غير الشرعي.
في المقابل، شهد لبنان فترات استقرار وازدهار، حين انعقد "تحالف أولويّات" بين مكوّناته حول مفاهيم السيادة والديمقراطية والحرية والعدالة والحياد والانتماء إلى الشرعيّتَين العربية والدولية، بما يتجاوز خطر "تحالف الأقليّات" القاتل.
هكذا تكرّست مرحلة استقرار بعد 1943 تحت عنوان "لا للشرق ولا للغرب" لبناء دولة الاستقلال الأوّل حتى انتهاء عهد كميل شمعون، ثمّ مرحلة ثانية لبناء المؤسسات الحديثة، ودوزنة العلاقات اللبنانية العربية، مع فؤاد شهاب، وثالثة مع اتفاق الطائف 1989 بتكريسه المناصفة وحصرية سلاح الدولة، ورابعة مع الاستقلال الثاني 2005 تحت عنوان "لبنان أوّلاً"، بمزيجٍ وطني خلّاق عابر للطوائف والمناطق، وخامسة بانتفاضة "17 تشرين" الشبابية 2019 والتي تمّ تشويهها وإجهاضها.
ففي كل مرة ينحو لبنان نحو مشروع خارج على بيئته العربية الواسعة، ومجافٍ لانتسابه إلى المجتمع الدولي المفتوح، يتفاقم وضعه وتتصادم طوائفه وأحزابه ومناطقه، ويدخل في دوّامة الصراع والعنف داخل نفق مسدود.
وهذا هو مأزقه اليوم، نتيجة ربط مصيره بمشروع غير عربي وغير قائم على المواثيق الأممية، ويترجم "حزب الله" هذا الربط من خلال ما يسمّيه "حرب مشاغلة" إسرائيل دفاعاّ عن غزّة، و"على طريق القدس".
وما يجري الآن هو النسخة الأخيرة من "حلف الأقليّات" في مواجهة الأكثرية العربية بمشروعها الحديث المتناغم مع مفاهيم العصر، ودائماً بحجّة محاربة إسرائيل ونصرة القضية الفلسطينية.
ولا تدري الأقليّات الصغرى المنخرطة في هذا "الحلف" أن هناك "أقليّة عظمى" هي "الجمهورية الإسلامية" ستتحوّل عاجلاً إلى أكثرية ساحقة لا تُقيم وزناً للحلقات الضعيفة المستتبَعة، سواءٌ كانت علوية أو مسيحية أو درزية أو حوثيّة أو مجموعات سنّية متفرقة، أو من سائر الأقليات الأقل عدداً.
لذلك، لا يمكن التوصّل إلى حلّ للمسألة اللبنانية ولمآزق الدول العربية الأربع الخاضعة ل"الأقلّية الكبرى" بمعزل عن إفشال هذا "الحلف" الذي اتخذ إسماً حركيّاً في الآونة الأخيرة هو "وحدة الساحات"، ثمّ تفكيكه، تمهيداً لتعميم "حلف الأولويات" ولقاء القيم من لبنان إلى العالم العربي، وقد بدأت طلائع هذا التعميم مع نجاح انتقال دول خليجية وعربية أخرى نحو المعاصرة بقيَمها وأهدافها، والتشبيك الحضاري في ما بينها، مع بدء طلائع تفكيك جبهة "محور الممانعة ووحدة الساحات" أو "حلف الأقلّيات"، من سوريا بالذات، تحت مؤشرات ارتخاء القبضة الإيرانية وتخفيض انتشارها العسكري.
ولا يخفى أن الرابط القوي والعميق بين أطراف "حلف الأقليّات" بقيادة إيران هو السلاح بعقيدته و"قدسيّته".
وكي ينجح تفكيك هذا "الحلف" لا بدّ من معالجة سلاحه، في لبنان كما في سوريا والعراق واليمن، بهدف استقامة العلاقات السليمة داخل هذه الدول، فلا يبقى جسم عسكري وسياسي جامد وصلب في مواجهة أجسام سياسية وطائفية متحرّكة و"رخوة".
وهذا موضوع للبحث في مقال لاحق.