يُمضي لبنان الرسمي فترة الحرب مع كيان العدو الإسرائيلي، و"ميني" الحروب الداخلية متفرّجاً. يعدُّ الأيام لانتهاء الأولى، وينتظر تراكم رماد التهدئة فوق جمر الثانية من دون أيّ فعلٍ جدّي على المستوى الاقتصادي. بعد هاتين الجملتين لا يتبادر إلى ذهن القارئ إلّا سؤال واحد: وماذا باستطاعته أن يفعل؟!
خلال القرن العشرين، قرن الحربين العالميتين، برز مصطلح: "war economy"، اقتصاد الحرب. وقد ميّز بين نوعين من الحروب: التقليدية الخارجية، والأهلية الداخلية. ولكلّ منهما إجراءات اقتصادية على السلطة اتخاذها. الأولى تتطلّب تنظيم إنتاج الموارد وتعبئتها وتخصيصها لدعم المجهود الحربي، وضمان استقرار دورات الأعمال، ومجافاة الركود. فيما يكون التعامل مع اقتصاد الحروب الداخلية أصعب، لأنّ السلطة تكون طرفاً في النزاع. وهذا ما يؤدّي إلى تدمير الاقتصاد النظامي، وسيطرة الاقتصاد النقدي "cash economy"، وزيادة معدّلات التهرّب الضريبي والتهريب الجمركي.
لبنان وسط حربين
تطبيق المفهوم العالمي لاقتصاد الحرب على الواقع اللبناني، يُظهر بوضوح أنّ الاقتصاد يعيش الحربين. فهو من جهة يخوض حرباً مع إسرائيل على حدوده الجنوبية، ويقع وسط تقاطع النيران الإقليمية. وتتصارع من الجهة الثانية مكوّناته الاقتصادية والاجتماعية، على كيفية إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتوزيع خسائر الانهيار التي تفوق المئة مليار دولار (تقدّر فجوة مصرف لبنان بـ 72 مليار دولار، وهناك نحو 31 مليار دولار كدٓيْن بالعملة الأجنبية). وهو ما يستولد كلّ الموبقات التي تسبّبها الحروب الداخلية للاقتصاديات. ويصعب الملاءمة بين إجراءات الطوارئ الاقتصادية الواجب تفعيلها في كلتا الحربين، ويجعلها متناقضة ومتضاربة. ويفاقم الخسائر بشكل هائل.
النمو صفر في المئة
إهمال السلطة السياسية للإصلاحات النقدية، والعمل الجدّي على تخفيض التكاليف الانتاجية، وفي مقدّمها الكهرباء، للقطاعات الصناعية والزراعية والسياحية بالتوازي مع اشتعال الحرب وتفاقم تردداتها الاقتصادية، أضعف هذه القطاعات، و(صفّر) النموّ للعام الجاري. فقد قدرت وكالة بلومبيرغ، بعد مسحها للمؤشرات الاقتصادية الإقليمية في 4 دول عربية، من بينها لبنان، أن يكون نموّ الناتج المحلّي الإجمالي لهذا العام 0 في المئة، وأن يبلغ العجز في الحساب الجاري 16.5 في المئة، وأن يستمرّ عجز الموازنة في الارتفاع من 1.5 في المئة في العام 2024 إلى 2 في المئة في العام 2025. وقد تفاقمت الخسائر المتوقّعة في لبنان بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل ودخول المنطقة مرحلة جديدة من الصراع. إذ من المتوقّع "ازدياد المخاطر وارتفاع تكاليف الإنتاج، بالتوازي مع ارتفاع أسعار النقل عالمياً وبدلات التأمين"، بحسب رئيس الاتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين الدكتور فؤاد زمكحل. "ومن المنتظر أن ترخي الأحداث بثقلها في الأيام المقبلة أيضاً على أسعار النفط بشكل أساسي، وعلى أسعار المعادن". وذلك "سيرتدّ ارتفاعاً في تكاليف التصنيع والنقل". ويحدّ بالتالي من جهود مكافحة التضخّم ويهدد باستمرار تثبيت أسعار الفائدة عالمياً، إن لم يكن العودة إلى رفعها لمجابهة الأخطار المستجدة. فصحيح أنّ الأسواق العالمية امتصّت الضربة الإيرانية في افتتاح التعاملات مطلع الأسبوع الجاري. إذ تراجع سعر خام برنت 24 سنتاً إلى 90.21 دولار، بدلاً من أن يرتفع، بسبب تقليص أطراف السوق لعلاوات المخاطر عقب الهجوم. إلّا أنّ المحلّلين لا ينفون إمكان ارتفاع الأسعار مستقبلاً. خصوصاً إذا فعّلت إيران القيود المفروضة على الشحن في مضيق هرمز.
سوق الصرف تمتصّ "الضربة" والسياحة تعكسها
داخلياً أيضاً شهدت الأسواق في اليومين الماضيين طلباً متزايداً على الدولار بحسب مصادر الصرّافين، كما غادر معظم المغتربين والسياح، خوفاً من تصعيد محتمل وإقفال الأجواء مدة طويلة. "ولولا بلوغ سوق الصرف مرحلة الإشباع من الدولارات لكنّا شهدنا تحرّكاً سلبياً لسعر الصرف"، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكوش. إلّا أنّ رفع الدولار الجمركي، واحتسابه على سعر صرف قريب جداً من سعر صرف السوق، ودولرة مختلف الضرائب والرسوم ومنها بشكل أساسي الضريبة على القيمة المضافة، أدّت إلى "امتصاص جزء أساسي من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية وحدّت من إمكان المضاربة على سعر الصرف"، بحسب عكوش. كما يظهر واضحاَ ارتفاع ودائع القطاع العام بالليرة في مصرف لبنان بشكل كبير جداً خلال العام الماضي والربع الأول من العام الجاري، بلغت ضعفي الكتلة النقدية الموضوعة في السوق. ففي آخر ميزانية لمصرف لبنان بلغت الكتلة النقدية بالليرة بالسوق حوالى 58 ألف مليار ليرة، فيما تجاوزت ودائع القطاع العام في مصرف لبنان المئة ألف مليار ليرة. وهذا ما أدّى إلى استقرار سعر الصرف".
تداركُ انهيار سعر الصرف لم يمتدّ إلى القطاع السياحي. لأنّ إحجام السيّاح عن القدوم إلى لبنان لم يعد محصوراً بفصل الربيع، إنّما سيمتدّ حكماً إلى الصيف مع تصاعد الأوضاع الأمنية وغياب الأفق عن الحلول السياسية. ومن المعروف أنّ السياح ينظّمون رحلاتهم قبل أشهر من فرصة الصيف. وهو ما سيفوّت على لبنان مداخيل كبيرة وصلت خلال العام الماضي إلى أكثر من ملياري دولار بحسب أدنى التوقّعات.
قدرة الاقتصاد على مجابهة التحدّيات
مخاطر توسّع الحرب واستمرار إهمال الإصلاحات لا تنحصر بسعر الصرف، وتراجع أعداد السياح والتأثر بارتفاع أسعار المواد الأوّليّة عالمياً وأسعار النقل، إنّما بقدرة الاقتصاد الهشّ على الصمود وسط كلّ هذه التحديات. "خصوصاً أنّ الدولة اللبنانية لا تملك أيّ رؤية مستقبلية أو خطة حقيقية لمجابهة الأزمات. وذلك من حيث إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة إحياء القطاعات الاقتصادية"، من وجهة نظر عكوش. "وكلّ ما يحصل هو عملية "ترقيعية". يساعد على عدم "فرطها" سريعاً، صغر حجم البلد، وتراجع الاقتصاد ووجود بعض المقدرات، وتدفّق المساعدات المباشرة وغير المباشرة من المغتربين والجمعيات". فالتحويلات الخارجية تتجاوز 6 مليارات دولار، والجمعيات الدولية كاليونيسف والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين والأونروا.. وغيرها الكثير من المنظمات الدولّية والمحلّية تنفق ملايين الدولارات سنوياً لدعم برامج التنمية والحماية الاجتماعية. وإذا ما أضيفت هذه المبالغ إلى الأموال التي تتلقّاها الأحزاب السياسية، وعوائد سياحة المغتربين، نجد أنّ البلد تدخله كمّيات كبيرة من الدولارات. خصوصاً في حال مقارنتها بحجمه الحقيقي الذي لم يعد يتجاوز 20 مليار دولار. "كلّ هذه العوامل تسمح بتنشيط الحركة الاقتصادية، إنّما لا تبني اقتصاداً متيناً في ظلّ غياب أيّ خطة عمل لإعادة إحياء القطاعات الاقتصادية، وإصلاح المصارف أو إعادة الودائع"، برأي عكوش. "وهذا ما ظهر جلياً في موازنة 2024 التي عجزت عن وضع أيّ قطاع على سكّة الحل".
ماذا باستطاعة الدولة أن تفعل؟
على الدولة أن تبدأ بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية. وإنْ سلّمنا جدلاً بعجزها عن إجراء الانتخابات الرئاسية وتشكيل حكومة أصيلة وتطبيق الإصلاحات المالية والنقدية في القريب العاجل، فأقلّ الإيمان عدم تضييع فرصة الانتخابات البلدية في أيار المقبل. فمن شأن هذه العملية المؤجلة منذ ثماني سنوات، ضخّ دم جديد في الإدارات اللامركزية. وإعادة تفعيل الخدمات الأساسية من كهرباء وماء ونفايات بالشراكة مع القطاع الخاص لتحقيق الصالح العام.