فتحَت جريمة خطف باسكال سليمان وقتله ملفّ الأمن الوطني اللبناني، الداخلي والخارجي، على مصراعَيه، ومعه ملفّ السيادة، وملفّ قرار الحرب أو السلم، وملفّ السياسة الخارجية المستقلّة، وملفّ الانتماء الواحد، وملفّ الحياد الذي كان يحمل إسم "النأي بالنفس" قبل بضع سنوات ترشيقاً لوقعه، وإسم "لا للشرق ولا للغرب" في مرحلة تأسيس الاستقلال الأول 1943، وإسم "لبنان أولاً" في مرحلة الاستقلال الثاني 2005.
كلّ هذه الملفّات تترابط بشكلٍ عضوي تكويني مصيري، بحيث إذا تداعى ملفٌّ منها تداعت جميعها تباعاً، وأصابها الخلل وخطر الانحلال والسقوط.
وبسبب هذا التكامل المُحكَم لا يمكن فصل عملية الاغتيال الأخيرة عمّا سبقها من اغتيالات، كما لا يمكن التغاضي عن تأثيرها المباشر على سائر الملفّات المذكورة، تحت توصيفات غير واقعية كالقول مثلاً إنها مجرّد "جريمة جنائية" يحصل مثلها في كل الدول، أو "حادث عرَضي لسرقة سيارة" يشهد لبنان مسلسلها منذ عقود.
وفضلاً عن أن اغتيال باسكال سليمان يكاد يكون الوحيد من نوعه، لجهة عدم اكتفاء السارقين بالاستيلاء على السيارة كما كان يحصل سابقاً، فإن مسار العصابة التي استولت على سيارته ونقلت معها جثته على مسافة تقارب 150 كلم، يكشف حقيقة حصانتها وتمتّعها بطبقات حماية داخل لبنان وداخل سوريا، وعبر التنقّل الحر بينهما.
الواضح أن هناك شبكة عصابات ذات اختصاصات مختلفة، فواحدة منها للخطف بهدف الفدية أو التصفية، وثانية للتهريب على أنواعه من الأسلحة إلى السِلع، وثالثة لسرقة السيارات والآليات، ورابعة لسِكك المخدّرات، وخامسة للنازحين وتغيير الديمغرافيا.
ويَعمَد مشغّلوها إلى الفصل بينها ومنع تعارفها وكتم وظائفها، على طريقة نظام المافيا وقانون الصمت المفروض عليها والمعروف الomertà، والذي يقضي بالتخلّص من كل مَن يفضح خليّة من خلاياها أو يُفشي سرّاً من أسرارها.
وفوق الطبقة الدنيا لهذه العصابات، المكوّنة من أفراد تنفيذيين، هناك طبقة أعلى من مسؤوليّ"صفّ" و"قادة" و"ضبّاط" يتلقَّون تعليماتهم من القيادات أو الطبقة العليا على طرفَي الحدود.
ولا يمكن لهذه القيادات العليا أن تتنصّل من مسؤوليتها عن أعمال هذه العصابات المتخصّصة وارتكاباتها المتنوّعة. ولم يكن احتجاج النظام السوري في الآونة الأخيرة على أبراج المراقبة التي أقامها الجيش اللبناني على الحدود سوى انعكاس لقرار تسييبها وتسهيل مهمّات هذه العصابات، خصوصاً في مجال تهريب المخدّرأت. ولا يبرّىء تسليمه جثّة الشهيد سليمان والسيّارة ذمّته من استباحة السيادة اللبنانية، بالتكافل والتضامن مع "حزب الله" الذي يسيطر بشكل تام على حركة الحدود خصوصاً في مثلّث القصير والقصر وزيتا، حيث استقرّت جريمة الخطف والقتل في مرحلتها الأخيرة.
على هذا المستوى تكمن مسؤولية "حزب الله"، بعيداً من اللغط حول تورّطه أو عدم تورّطه المباشر، أي في مشروعه العابر مصلحة لبنان والناسف سيادته، وفي رعايته العليا لحالة فلتان العصابات، سواءٌ بحجة العجز عن ضبطها أو بحجة الحساسية في التعامل مع فئات مسلّحة أو عشائر. وقد عمَد غير مرة إلى تكليف الأجهزة الرسمية بمعالجة بعض الخلافات والتجاوزات وتحديداً في الضاحية أو ما يُعرف في اللغة السياسية والإعلامية بال"dirty works" (الأعمال القذرة) التي يتحاشى إحراق أصابعه فيها.
ومن الفلتان "المضبوط" و"المبرمج" في هذه المنطقة الحدودية يمكن سحب هذه الحالة على الحالات الأخرى السائبة في سائر الحدود وصولاً إلى العاصمة والجنوب حيث أفلَت قرار الحرب من الشرعية اللبنانية، وبات في عهدة "حزب الله" منذ حرب 2006 على الأقل، ومنه إلى طهران التي حوّلت لبنان إلى إحدى منصّاتها المتقدّمة في الصراع الإقليمي الدولي.
وإذا كان السيّد حسن نصرالله قد سارع، بل تسرّع، تحت تأثير توتّر وغضب غير مبرّرَين، في قذف حزبَي القوات والكتائب اللبنانية بتهمة السعي إلى الحرب الأهلية بما يساوي التحريض عليهما، فإنهما في المقابل أثبتا رباطة جأش ومستوى رفيعاً من ضبط النفس والتحلّي بالحكمة والمسؤولية الوطنية، وقد تهافتت بسرعة محاولات تحريك الفتنة من خلال حوادث مشبوهة في جديتا وبيصور وبيانات ظلامية مجهولة المصدر ضد النازحين السوريين، مع موجة شائعات خبيثة عن قطع طرق وحواجز وانتشار مسلّحين لإثارة الغرائز، إضافةً إلى تقويل بعض القيادات ما لم تقُلْه، وأخذ بعض التغريدات الفردية والهامشية كمعيار للإدانة.
صحيح أن دماء الشهيد باسكال وقبله عشرات الشهداء ثقيلة وحارّة على أوليائها، إلّا أنها أضاءت على حقيقة المحنة اللبنانية وسبيل الخروج منها:
الحقيقة هي أن لبنان سقط من رتبة دولة إلى دَرْك الساحة المستباحة بفعل العصابات بطبقاتها السياسية والعسكرية الثلاث ووظائفها الخمس على امتداد الجغرافية من الحدود إلى القلب، وبثنائية رعايتها ومرجعيّتها بين سوريا ولبنان، مع طغيان التمرّد على المؤسسات والإفلات من العدالة.
أمّا سبيل الخلاص من عهد التحّكم والسيطرة والمصادرة، إنقاذاً لأهله وسائر لبنان معاً، فهو التنفيذ الكامل والمتدرّج لقرارات الشرعية الدولية بدءاً بال1701 وصولاً إلى ال1559 وال1680، التي تضمن قيام دولة سويّة بسيادتها الكاملة واستقلالها السياسي الناجز وحدودها المُصانة وحيادها الثابت عن الحروب والصراعات والمشاريع الدخيلة، دولة ذات قرار شرعي يشكّل مظلّة دستورية لسلاح واحد يحمي الوطن من تقلّبات الزمن.