إذا صحّت مقولة كارل ماركس بأنّ التاريخ "يُعيد نفسَه مرّتين، الأُولى بشكل مأساة والثانية بشكل ملهاة"، فإنّ وضع إيران الراهن يشكّل تطبيقاً واقعياً وحيّاً لهذه المعادلة، بسبب موقفها الحائر بين الردّ على مأساة قنصليتها في دمشق وما سبقها من ضربات، والاكتفاء بملهاة شعارَيها المكرّرَين: "الصبر الاستراتيجي" و"الزمان والمكان المناسبَين".
مرّ أسبوع على تدمير مقرّ القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية واغتيال جنرالَين بارزَين في "الحرس الثوري" و"فيلق القدس" مع خمسة من معاونيهما، ولم تحسم طهران بعد نوع "العقوبة" ولا طريقة فرض "الندم" على إسرائيل تنفيذاً لوعد مرشدها الأعلى علي خامنئي، سواءٌ بعملية عسكرية مباشرة أو عبر أذرعها في المنطقة، وأقواها "حزب الله" في لبنان.
وهي في الواقع مرتبكة بين خيارات ثلاثة:
إحتواء الصدمة في لعبة الوقت وغفلة الذاكرة.
أو الردّ الدعائي الصوتي بصواريخ إستعراضية كما فعلت على قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق بعد اغتيال قاسم سليماني مطلع العام 2020، وبعد إبلاغ القيادة الأميركية مسبقاً بها، وكانت نتيجتها "صدمة نفسية" لبضعة جنود أميركيين.
أو عملية عسكرية فعلية بحجم عملية القنصلية أو أكبر، بدون أن تضمَن الجهوزية والقدرة على تحمّل تبعاتها وما يتبعها من احتدام.
ولم تأتِ خطب الاحتفال ب"يوم القدس" أوّل من أمس من طهران إلى ضاحية بيروت بإضافة جديدة على توعّدهما بحتمية الرد، واعتبار عملية القنصلية ك"حادث مفصلي له ما بعده"، و"يا هلا ويا مرحب بالحرب"، وفق تعبير الأمين العام ل"حزب الله" السيّد حسن نصرالله".
هذا التردد في حسم الرد، نوعاً وكمّاً ووسيلةً ومكاناً وزماناً، لا يعود فقط لتهيّب إيران ممّا بعد الانتقام المُضمر أو "اليوم التالي"، بل لحسابات إستراتيجية دقيقة على نهج طول الأناة، أو ما تصحّ تسميته ب"الصبر السجّادي" في حياكة القرار والخيار.
هذا التردد في حسم الرد، نوعاً وكمّاً ووسيلةً ومكاناً وزماناً، لا يعود فقط لتهيّب إيران
وقد يطول التردد ويتمدّد، ما يذكّر برضوخ آية الله الخميني لقرار مجلس الأمن الدولي 598 الصادر في 20 تموز 1987 والقاضي بوقف الحرب مع العراق، بعد مرور سنة على صدوره، أي سنة 1988، معتبراً قبوله القرار بمثابة "تجرّع كأس السُمّ".
فهل تنتظر إيران سنةً كاملة هذه المرة أيضاً قبل أن تتجرّع سُمّ خساراتها النوعية وانكسار الميزان الاستراتيجي مع إسرائيل ونتنياهو، أم تمنع التاريخ من أن يُعيد نفسه بمأساة جديدة بعد مرور 36 عاماً على مأساتها العراقية مع صدّام حسين؟
تختلف الظروف والمعطيات بين الحالتَين أو المأساتَين، ولا يمكن قياس الثانية بدقّة على الأُولى، فقد اعتمدت إيران سنة 1985 على دعم أميركي وإسرائيلي بالسلاح خصوصاً صواريخ "تاو" لمواجهة العراق، في ما عُرف سنتذاك بفضيحة "إيران غيت" أو "إيران كونترا"، وهي فضيحة لا تزال تجرّ ذيولها وترسم علامات استفهام كثيرة حول حقيقة العلاقة ومدى عمقها بين عدوَّين حميمَين.
أمّا اليوم فالحرب هي مع إسرائيل نفسها التي تحظى بدعم أميركي موصوف رغم كلّ التجاذب والخلاف بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو، إلّا إذا كانت مصلحة الأوّل الانتخابية الرئاسية تفرض عليه قطبة مخفية في مفاوضاته مع إيران بما لا يسمح بهزيمتها الكاملة وتجرّعها كأس سُمّ ثانية، فتكون التسوية بتطويق الثاني (نتنياهو) وحفظ ماء وجه خامنئي، وتنجح واشنطن في إعادة التكامل وتبادل المصالح بين جناحَي استراتيجيتها في الشرق الأوسط.
لكنّ حفظ ماء وجه إيران سيضعها أمام تغيير التوازنات ودفع الأثمان، فيكون أدناها تقليص نفوذها في العواصم العربية الأربع، وأعلاها ختم سلاحها النووي بالشمع الأحمر.
أمّا في حال اندفاع إيران نحو حرب مفتوحة مع إسرائيل خلافاً لبراغماتيتها المعهودة وخلفية المصالح المتقاطعة، فإنها تجازف بما بَنته في غُرَف التسويات السرّية، وبما جمعته من أرصدة عسكرية وسياسية واقتصادية، وبوظائف التنظيمات المسلّحة التي أنشأتها، وأبرزها تنظيماها في لبنان واليمن، مع ارتجاج الثقة العمياء بينها وبين أذرعها.
إلى هذا المستوى الشديد الصعوبة والدقّة وصلت "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" في منتصف عقدها الخامس (أصبح عمرها خمساً وأربعين سنة)، تحت ضغط انتشارها العسكري الفضفاض والمُكلِف خارج نطاقها الوطني، وبعيداً من "مداها الحيوي" المباشر.
وككلّ الإمبراطوريات التوسّعية عبر التاريخ، تنتظر دولة "الوليّ الفقيه" مسار مصيرها بين "المأساة والملهاة".