خطف بريق الذهب في السنوات القليلة الماضية عيون المستثمرين في أنحاء العالم. ففي الوقت الذي كانت فيه الجائحة والحروب وارتفاعات الأسعار وتعطّل سلاسل الإمداد، تهبط باقتصاديات الدول وعملاتها، كان المعدن الأصفر يتسلّق عرشه بخطوات متسارعة. منذ العام 2018 إلى اليوم عمل الذهب كـ "المنشار الذي يأكل صعوداً ونزولاً". فحقّق مكاسب غير مسبوقة في مرحلة نزول الاقتصاد وتراجع الثقة بالعملات، ورغبة الافراد والحكومات غي التحوّط من الحروب والخضّات. واستمرّ في جني الأرباح من طلوع الاقتصاد والنجاح بمحاصرة التضخم وانتظار بدء المصارف المركزية العالمية، وفي مقدِّمها الفيدرالي الأميركي، تخفيض أسعار الفائدة.
بين العام 2018 ونهاية آذار 2024، حقّق المستثمرون بالذهب، أفراداً كانوا أم مؤسسات أم حكومات ومصارف مركزية، عوائد وصلت إلى نحو 43 في المئة. وتعتبر هذه النسبة هي الأكبر. خصوصاً إذا ما قورنت ببقية الأصول والأسهم والسندات وحتّى أسعار الفائدة.
مشوار الذهب التصاعدي منذ العام 2018 إلى اليوم
في ستّ سنوات ارتفع سعر أونصة الذهب من 1281 دولاراً إلى 2232.4 دولار في نهاية 2023، وبنسبة بلغت حوالى 43 في المئة. فبالإضافة إلى كونه الملاذ الآمن في مختلف الأوقات، استفاد الذهب في العام 2019 من خفض المصارف المركزية في أنحاء العالم أسعار الفائدة. ومن المعلوم أنّ الدولار والفائدة يرتبطان بعلاقة عكسية. فعندما تنخفض أسعار الفائدة تفقد السندات الحكومية والإيداعات المصرفية جاذبيتها ويتحوّل المستثمرون إلى الذهب فيزداد الطلب، ويرتفع السعر، والعكس صحيح. الارتفاع استمرّ خجولاً مطلع العام 2020 مع ازدياد المخاوف من التوترات الجيوسياسية، لكنّه سرعان ما سجّل رقماً قياسياً وصل إلى 2073 مع تزايد المضاعفات الاقتصادية لجائحة كورونا وارتفاع أعداد الإصابات، وبدء الحكومات في أنحاء العالم بحزم التمويل لمواجهة الجائحة. في العام 2021، تراجع سعر الذهب مراوحاً ما بين 1696 و1905 دولارات متأثراً بنجاح حملات التطعيم ضد الفيروس وتحسن مؤشر الدولار وعوائد السندات الأميركية، وتصاعد التوقعات برفع الاحتياطي الفيدرالي للفائدة. وفي مطلع العام 2022 عاد الذهب ليأخذ مساراً تصاعدياً مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، محقّقاً مستويات تجاوزت 1900 دولار، ليعود ويتراجع بشكل حاد مع بدء الفيدرالي رفع معدلات الفائدة لمواجهة التضخّم. واستطاع الذهب في العام 2023 تحقيق أفضل أداء مع إحجام المصارف المركزية عن رفع أسعار الفائدة وتوقّع الأسواق البدء بتخفيضها. فارتفع سعر الأونصة إلى 2062 دولاراً. هذه التوقعات انسحبت على العام الحالي إذ أدّى استمرار تثبيت الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة لخمس جلسات متتالية وارتفاع إمكانية تخفيض الفائدة إلى تحقيق الذهب مكاسب كبيرة جداً بعدما وصل سعر الأونصة في آخر جلسات شهر آذار إلى أعلى مستوى على الإطلاق وهو 2232.4 دولار. ليعود ويكسر مع بداية نيسان الحالي حاجز 2260 دولاراً.
نعمة أم نقمة
تنذر الارتفاعات في أسعار الذهب بإمكانية حدوث أزمات اقتصادية عالمية. فالارتفاع في الأسعار يأتي نتيجة زيادة الطلب العام على المعدن الأصفر، وليس الطلب الفردي المحدود. وكثيراً ما يكون طلب الحكومات والمصارف المركزية وصناديق التحوّط حول العالم، استشعاراً باحتمال ضعف العملات، ولا سيما الدولار. فـ"حكومة الولايات المتحدة الاميركية التي تصدر أقوى عملة في العالم، تواجه عجزاً كبيراً، يقودها إلى طبع تريليون دولار (1000 مليار دولار) كلّ 90 يوماً"، يقول المستشار المالي ميشال قزح، أي ما يقدّر بـ 4 تريليونات دولار في العام. هذه العملية هي الوصفة السحرية لفقدان أيّ عملة قيمتها. "حتّى ولو كان الإصدار على شكل عملات رقمية وغير ورقية"، برأي قزح. وللدليل على مخاطر العملية وتأثيرها الكبير على الصرف، يمكن أن نعطي لبنان مثالاً مصغّراً جداً، حيث أسفر التوسع بطبع الليرات من نحو 5000 مليار ليرة قبل الانهيار، إلى نحو 90 ألف مليار، عن إفلات سعر الصرف من عقاله وانهيار الليرة مقابل الدولار. ورغم الفرق الشاسع بين الليرة والدولار، واعتبار الأخير مرجعاً للقيمة وأداة لقياس بقيّة العملات، فإنّ تغطية العجز المالي بطبع الفيدرالي الأميركي يدفع، بحسب أحد أشهر علماء الاقتصاد ميلتون فريدمان (1912- 2006)، باتجاه التضخّم حتماً، وينذر بأزمة عالمية كبيرة"، يضيف قزح. "والأرجح أنّ الولايات المتحدة الأميركية ذاهبة بطريق التضخم الانكماشي Stagflation". إلى ذلك، يؤدّي الصراع الروسي الاوروبي من جهة، والأميركي الصيني من الجهة الأخرى إلى تعميق أزمة الدولار وزيادة طلب المصارف المركزية والحكومات على الذهب. فـ "الصين تبدّل سندات الخزينة الأميركية بالمعادن الثمينة والمشاريع الاستثمارية، للخروج من الدولار وفك الارتباط به"، بحسب قزح.
"البريكس" يلعب دوراً أيضاً
تضاف هذه الاجراءات إلى سعي تجمع البريكس بلاس (برازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب افريقيا، السعودية، الامارات، إيران، اثيوبيا، مصر) الذي تعدّ الصين وروسيا من أكبر دوله، إلى إنشاء عملة موحدة خاصة على غرار اليورو. وتحاول دول التجمع إحلال الدولار في تعاملاتها البينية محلّ عملاتها السيادية، ولا سيما في التجارة بين روسيا والصين أو بينها وبين البرازيل.
اللبنانيون يتهافتون على الذهب
في المقابل، تزيد المصارف المركزية طلبها على الذهب كملاذ آمن في وجه صراع العملات، و"تتراجع عن طلب الدولار، خصوصاً في ظلّ الركود الاقتصادي الذي سيدفع عاجلاً أم آجلاً إلى خفض أسعار الفائدة إلى قرابة 1 في المئة"، يقول مدير العلاقات العامة في شركة "سي أف آي للاستثمار" جاد شكر. "وتلقائياً عندما تصعد أسعار الذهب بهذا الشكل يتهافت اللبنانيون على محالّ المجوهرات والصاغة من أجل شراء الذهب". وذلك على النقيض من السلوك العاقل: أي الشراء عند الانخفاض. والخوف، بحسب شكر، هو من "حركة تصحيحية في الأسواق. وهذا أمر طبيعي يستوجب الحذر عند الشراء، مع العلم أنّ الاتجاه العام يشي بأن لا سقف لارتفاع أسعار الذهب".
من الرابحين الكبار أيضاً، نتيجة ارتفاع أسعار الذهب، يبرز مصرف لبنان. فاحتياطي الذهب المقدّر حجمه بـ286 طناً أصبح يساوي حوالى 20.8 مليار دولار. ويشكّل أكثر من نصف ما تبقّى من احتياطي عملات أجنبية في حسابات مصرف لبنان. بيد أنّ المشكلة هي أنّ ثلث كمية الذهب موجود خارج لبنان، وتحديداً في قلعة فورت نوكس الأميركية، وتعتبر هذه الكمية الأكثر عرضة للحجز عليها من قِبل حملة اليوروبوندز في حال بدء مقاضاة الدولة اللبنانية"، من وجهة نظر قزح. "في حين أنّ الثلثين في لبنان محميان إلى حدّ ما". وعليه، لا مهرب من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والتفاوض مع الدائنين على قواعد واضحة من آجل الخروج من هذا الانهيار العظيم الذي يفوّت على لبنان فرصة الاستفادة من أيّ تطورات إيجابية قد تصبّ في مصلحته.
إثباتاً لما سبق، افتتح الفصل الثاني من العام الحالي (1 نيسان وإلى نهاية حزيران) على كسر أونصة الذهب (31.1 غرام) رقماً قياسياً جديداً محققة 2265 دولاراً للأونصة. وهو ما يحول "الاستثمار الكسول بالذهب"، إلى واحد من أنجح الاستثمارات على الصعيدين العام والفردي، وأكثرها حماية للمستثمر من التضخّم. ويؤكّد مرة جديدة على صوابية الاستثمار بـ خلق القيمة " Value creation"، على طريقة وارن بافيت المعروفة"، يقول ميشال قزح. مثلها مثل الاستثمار في أسهم "آبل"، و"انفيديا" وغيرهما العديد من الشركات العملاقة.