قد ينتهي البحث في "جنس الملائكة"، ولن يتوصّل اللبنانيون إلى حسم مسألة توزيع الخسائر. فمع دخول الأزمة النقدية والاقتصادية عامها الخامس، ما زال النقاش حول الجهة المسؤولة عن "ردم" الفجوة النقدية المقدّرة بأكثر من 72 مليار دولار، يدور في المربّع الأول: الدولة أم المصارف؟
موازين القوى التي ظلّت متوازنة نسبياً بين الفريقين بدأت تختلّ لمصلحة فريق تحميل الدولة الجزء الأكبر من المسؤولية. وما كان يطرح في المجالس الخاصة وآراء في الإعلام، أصبح يُترجم بمقترحات قوانين لاستثمار أصول الدولة والتعويض على المودعين، من خلال صناديق عامّة أو شركات مساهمة او سواها من الأشكال الأخرى. وتقوم هذه الطروحات على أساس استثمار أصول من القطاع العام سواء كانت مُنتِجة أو عاجزة بطريقة تحقق إيرادات أعلى، من خلال إدارتها من القطاع الخاص او بالشراكة معه. ويُستعمل جزء من هذه الإيرادات في عملية التنمية، والجزء الآخر للتعويض على المودعين، (تبلغ نسبة التعويض في مقترح كتلة لبنان القوي 30 في المئة) وتختلف أشكال التعويض بحيث يمكن المودعين أن يكونوا مساهمين مباشرين في رأسمال الصندوق أو الشركات التي تتفرع عنه، أو في امتلاكهم أسهماً صفرية تزداد قيمتها مع الوقت، أو بتحويل ودائعهم إلى ديون ممتازة يتمّ تعويضها من الإيرادات على مرّ السنوات.
موازين القوى التي ظلّت متوازنة نسبياً بين الفريقين بدأت تختلّ لمصلحة فريق تحميل الدولة الجزء الأكبر من المسؤولية.
مقترحات القوانين:
من أبرز اقتراحات القوانين:
اقتراح قانون إنشاء "المؤسسة المستقلّة لإدارة أصول الدولة" الذي تقدّم به تكتّل الجمهورية القوية في شباط 2023.
اقتراح قانون إدارة الأصول العامة والإشراف على استثمارها، الذي تقدّم به نواب كتلة التنمية والتحرير في آب 2023.
اقتراح قانون الصندوق الائتماني لحفظ أصول الدولة وإداراتها الذي تقدم به تكتل لبنان القوي في آذار 2024.
تختلف اقتراحات القوانين هذه من حيث الشكل، لكنها تتشارك من حيث المضمون، في "شطب الودائع، وتصفير التزامات المصارف مقابل تسجيلها ديناً على الدولة"، يقول رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الدكتور منير راشد. "ويتطلّب ردّ الودائع من أرباح المؤسسات المدرجة في الصندوق السيادي والمرتبط بالإدارة المركزية لمؤسسات القطاع العام عشرات السنوات. هذا إذا سلّمنا جدلاً بإدارته بطريقة شفافة بعيداً من التحاصص والتقاسم كما يحصل في كلّ القطاع العام. إلّا أنّه في الحقيقة ليس ثمة أيّة ضمانات على إمكان ردّ الأموال للمودعين فعلياً. خصوصاً في ظلّ الإدارة الحالية". كما لا يمكن من حيث المبدأ "إلغاء حسابات المودعين من المصارف، ووضعها بصكّ دين على الدولة"، يشدّد راشد. "لأنّ هذه الطريقة تهدّد وجودها".
خصخصة إدارات مؤسسات الدولة وفتحها للاستثمار
في المقابل، فإنّ ما طرحه راشد، وتبنّاه "اتحاد المصارف العربية" في ورقته الانقاذية يختلف شكلاً ومضموناً عن اقتراحات القوانين المقدمة. وينصّ المقترح على خصخصة إدارات المؤسسات العامّة من خلال مناقصات عالمية، ومن ثمّ تحويل هذه المؤسسات إلى شركات مساهمة عبر الـ Corporatization بملايين الأسهم، وتحديد الملكية الفردية بأقلّ من نصف في المئة، وإدراجها على بورصة بيروت وفتحها للتداول للمودعين والمواطنين على السواء. والأهمّ عدم جمعها في بوتقة واحدة صندوقاً سيادياً كانت أم شركة استثمارية أو خلافه من الأشكال، بل إبقائها ضمن الوزارات التابعة لها. ويحفظ المقترح حصة وازنة للدولة قد تكون 30 في المئة من مجمل الأسهم، تستخدم عائداتها في بناء شبكة الحماية الاجتماعية وتأمين الخدمات الأساسية للمواطنين. وفي ما يتعلّق بالمودعين فبإمكانهم توظيف ودائعهم المحجوزة بشراء الأسهم من هذه الشركات اختيارياً. وترتفع العوائد كلّما ازدادت أرباح المؤسسات، وبالتالي تزداد فرص تحصيل أكبر قدر ممكن من قيمة الوديعة خلال فترات زمنية غير طويلة.
الخطأ الثاني الذي تتشارك فيه اقتراحات القوانين هو الانطلاق من فرضيتين غير صحيحتين وهما: إمّا شطب الودائع وإمّا ردّها كاملة. وهذا لا يستقيم في علم الاقتصاد وطريقة عمل الأنظمة المصرفية. وعليه، يبقى الحلّ "بتوفير السيولة"، برأي راشد. "ويكفي تأمين سيولة بقيمة 10 مليار دولار في المصارف من خلال تخفيض الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان من 15 إلى 2 في المئة من أجل إعادة تفعيل عمل المصارف. فالمصارف تدير السيولة وتعمل على توفير نسب محدّدة من الودائع ترتفع تدريجياً كلّما زادت الثقة بالقطاع المصرفي. ومع استعادة الثقة شيئاً فشيئاً لا يعود هناك من داع لسحب كلّ الودائع من المصارف، وتقتصر السحوبات على تلبية الحاجات الفردية والتجارية. وهذه هي الطريقة الطبيعية لعمل المصارف في العالم.
مخاطر الصندوق السيادي في الحالة اللبنانية
تضاف اقتراحات القوانين هذه، إلى توصيات جمعية المصارف وتجمع رجال الأعمال والهيئات الاقتصادية، وورقة رئيس مجلس شورى الدولة التي تدور في الفلك نفسه. ومن غير المستبعد أن تلاقي مقترحات القوانين المطعّمة بآراء من القطاع الخاص، مصير الصندوق السيادي للثروة النفطية، من حيث وضعها في خلّاطة اللجان المشتركة للخروج بقانون واحد في وقت ليس ببعيد. إلّا أنّ "هذا النوع من التفكير يطرح تحدّيات عدّة على المجتمع من منظور الاقتصاد السياسي"، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور حسن شري. "ويجب أخذ المسائل التالية في الحسبان عند مقاربة مسألة الصناديق السيادية لإدارة أصول الدولة، وإذا ما كانت تشكّل حلّاً لأزمة الودائع":
أولاً، ترابط المصالح بين الحلقة السياسية والحلقة المالية: فإنشاء الصندوق السيادي في الحالة اللبنانية سيفتح الباب أمام الزعماء لإعادة إنتاج موازين القوى على النحو الذي ساد منذ التسعينيات، وما ترتب عليه من تشوهات اقتصادية وهجرة في صفوف الشباب. ولا ننسى أنّ السياستيْن النقدية والمالية تم تجييرهما لهذا الهدف، أي تثبيت موازين القوى بعد ترتيب الهدنة بين الفئات المتقاتلة في سنوات الحرب، سواء من خلال معدّلات فائدة أعلى من المعدّلات القائمة في الدول المتقدمة، أو جراء استخدام المالية العامة لإعادة توزيع المنافع وتعزيز شرعية الزعامات التي أتت على أنقاض الدولة.
ثانياً، مسألة الشفافية والمساءلة في إدارة الصندوق السيادي أمر بالغ الأهمية، ولكن ضعف القدرات المؤسسية في لبنان وخضوعها لموازين القوى السياسية يشكّلان تحديًا جاداً في هذا الإطار.
ثالثاً، في مسألة إعادة توزيع الموارد: إنشاء الصندوق السيادي قد يترتّب عليه تأثيرات توزيعية داخل المجتمع. مثلاً، كيف سيُموّل الصندوق: تراكم الاحتياطيات؟ أو بيع أصول الدولة؟ أو تحويل الأموال الفائضة من الخزينة إلى الصندوق؟ أو من خلال فرض الضرائب؟ وإذا افترضنا أنّ التمويل يأتي من الضرائب بشكل رئيسي، فهل ستشمل الضرائب الأملاك البحرية، والثروات، والفئات الاجتماعية ذات الصلة؟ وليس ثمة دليل على أنّ النظام السياسي القائم مستعدّ لأنّ يوزّع فوائد (وأعباء) الصندوق بشكل عادل، وهذا يؤدّي إلى تبرئة من تسبّب في الأزمة المصرفية وتبخّر الودائع في الدرجة الأولى، وبالتالي إعادة انتاج النظام السياسي الاقتصادي القائم والذي هو المسؤول الرئيسي عن تنامي الفجوات بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة.
ويضيف الدكتور شري أنّ "الإشكالية الأبرز هي أنّ إنشاء الصناديق السيادية لإدارة أصول الدولة كحلّ لأزمة الودائع يأتي على حساب وضع خطّة واضحة لتوزيع الخسائر بشكل عادل وهادف، والانتقال بالمجتمع من مرحلة الأزمة إلى مرحلة إعادة تكوين الاقتصاد. ذلك أنّ توزيع الخسائر هو معادلة صفرية (zero-sum game)، أي أنّ تحميل فئة معيّنة خسائر أقلّ يعني تحميل فئة أخرى خسائر أكبر. ومن الطبيعي أنّ أصحاب المصارف والمساهمين فيها، بالإضافة إلى فئة الـ 1% من كبار المودعين الذين راكموا ثروات كبيرة من الفوائد على ودائعهم (معظمهم من كارتيل النفط والدواء وأصحاب الوكالات الحصرية والمنتفعين من الصفقات)، لن يقبلوا بأيّ خطّة عادلة لإعادة توزيع الخسائر.
في ظلّ تمييع المحاسبة وترك الحلّ في يد من تسبّب باندلاع الأزمة، لن يكون هناك خلاص مهما كانت الحلول علمية أو منطقية وتعتمدها الدول المتقدّمة والمتحضّرة. والمطلوب البدء بالمحاسبة وإقصاء المسؤولين عن الانهيار وتنظيف الأرضية لإقامة بناء حديث ونظيف. وهذا ما زال مستبعداً في المدى القريب، لا بل في المدى البعيد أيضاً.