لم يكن المأزق الذي يعانيه "حزب الله"، منذ انخراطه في "حرب الإسناد والمشاغلة" عبر جنوب لبنان قبل 160 يوماً، في حاجة لإثبات بالشكل والمضمون قدّمه السيّد حسن نصرالله، ربّما من حيث لم يقصد، في خطابه الأخير.
فلا لهجة الخطاب ارتفعت إلى مستوى الأدبيات العالية النبرة والمعهودة لديه بعناوينها المصيرية وعقيرتها الصاخبة، ولا مضامينه لامست حدّ إقناع متابعيه من خصومه ومريديه، خصوصاً في تخصيصه القسم الأكبر من حججه للرد على منتقديّ انغماسه في حرب بلا أفق وبلا جدوى، أو في استناده إلى ما يُخفيه الإسرائيليون وما يعلنونه كشهادات وثوابت جديرة بالبناء عليها لإعلانه هزيمة مؤكّدة ولو مؤجّلة لإسرائيل، بحسب تقديره.
ولم تكن المقارنة التي أجراها بين خسائر الجنوبيين والخسائر الإسرائيلية موفقة ومقنعة، وكأن هذا التخفيف من الكارثة الجنوبية، مع سائر المناطق التي تتعرض للغارات، مقابل فداحة الكارثة الإسرائيلية، كفيل ببلسمة معاناة النازحين وجروح فاقديّ الأرزاق والأعناق.
كما لم يجِد في ختام خطابه التوصيفي والتبريري سوى دعوة بيئته إلى الصبر والتحمّل وانتظار الوقت للخروج نحو أفق لم يستطع توضيح معالمه، بل أبقاه معلّقاً على المجهول في المسار والمصير.
لكنّ العطب الكبير في مقاربة نصرالله للحرب وأثمانها يتخطّى هذه التبريرات الإعلامية الدعائية إلى جوهر المواجهة، طالما أنه اعتمد حجة المقارنة مع المأزق الإسرائيلي.
فإسرائيل تخوض حربها شمالاً وجنوباً ببنك أهداف واضحة وفقاً لمخططها الاستراتيجي، سواءٌ بالقضاء على "حركة حماس" أو بإبعاد خطر "حزب الله" عن مستوطناتها الشمالية، وهي لا تأبه للضغوط التي تحاول ردعها ولو تعرّضت لخلاف حاد مع إدارة البيت الأبيض راعيها وحاميها الأوّل، بينما يلف الغموض أهداف "الحزب" ومرجعيته الإيرانية، فيتغطّيان بالعنوان الجامد "إسناد غزة"، ويراوحان تحت ردود الفعل وليس الفعل، مع إضافة عنوان حديث في الأيام الأخيرة لا يقلّ جموداً هو "ردع الهجوم الإسرائيلي" المحتمل.
العطب الكبير في مقاربة نصرالله للحرب وأثمانها يتخطّى هذه التبريرات الإعلامية الدعائية إلى جوهر المواجهة
قبل عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول الفائت، كانت أهداف طهران وذراعها الأولى "إزالة إسرائيل من الوجود" مع حشد شعارات إستطرادية وتنفيذية كاجتياح الجليل، ومعادلات ما بعد بعد حيفا، وتل أبيب مقابل الضاحية، ومن كريات شمونة إلى إيلات، والزحف إلى القدس، وقد فقدتا فرصة نادرة لاستغلال تلك العملية الاستثنائية التي قامت بها "حماس"، والانقضاض على شمال إسرائيل المرتبكة والمصدومة والمتضعضعة في جنوبها، وبلغتا الآن مرحلة التخلّي عن تلك الشعارات وخفّضتا أهدافهما إلى مستوى "المشاغلة" والتزام "قواعد الاشتباك" والاكتفاء بالردود الموضعية التي لا قيمة استراتيجية لها ولا مؤثّرات تغييرية.
هذه الحَيرة في جهل "اليوم التالي" وتحديد أهداف الحرب واستراتيجية خوضها وخاتمتها عبر جنوب لبنان تقترن بحَيرة سياسية مماثلة في شأن السِلم اللبناني الداخلي، وتحديداً في الملف الرئاسي وطبيعة العلاقات مع المكوّنات.
فتحتَ الربط الذي لم يعُد سرّاً بين ملفَّي الجنوب (وغزّة) والرئاسة، تختلط الأهداف الغامضة والمجهولة هنا وهناك، إلى درجة الصمت والارتباك في الرد على مبادرة "تكتل الاعتدال الوطني"، وتكليف الرئيس بري مهمة احتواء بل إجهاض هذه المبادرة، والتطويق المسبق لحركة سفراء اللجنة الخماسية العربية الدولية المتقاطعة على الحلّ الوسطي المعروف ب"الخيار الثالث".
وبات جليّاً أن الشرط الطارىء الذي وضعه بري بترؤّسه شخصياً لقاء الحوار أو التشاور بين الكتل والنواب، خلافاً لموقفه السابق، أعاد ملفّ الرئاسة إلى مربّعه التعطيلي الأول، وفتح باب الترويج لاستحالة الخرق، وحرق الأسماء والحظوظ، مع أن نسمة تفاؤل هبّت في الأسبوع المنصرم على خلفية النفَس الجديد في الإفطارات الرمضانية بطابعها السياسي، واستعادة السفراء الخمسة حركتهم لدى المرجعيات السياسية.
فهل هناك مَن يستطيع تصحيح الرماية عبر تخليص "حزب الله" و"الثنائي" من أزمة ضياع بوصلة الحرب في الجنوب وبوصلة السياسة في الداخل؟
لعلّ القادر الوحيد على تصويب اتجاه البوصلتَين وضبط الأهداف والخروج من حالة الجهل والتجهيل نحو بوصلة حلّ واحدة للبنان، هو التقاطع بين "الخماسية" وإيران، وتحديداً بين واشنطن وطهران اللتين تتجاذبان الضغوط والتفاوض معاً، ولكن بما لا يعاكس الإرادة اللبنانية العارمة في الرفض المزدوج:
رفض الحرب العبثية المجهولة الأهداف بخطاها الضائعة ومستقبلها الغامض.
ورفض "المَكرمة" السياسية للعائدين من هذه الحرب بذريعة صفقةٍ إفتراضية ما، إيرانية إسرائيلية بمباركة أميركية - فرنسية، كترضية سياسية ل"الحزب" لقاء انكفائه العسكري.
تحت هذَين الرفضَين الوطنيَّين العابرَين للكتل والأحزاب والطوائف يكمن الحل السياسي اللبناني، تفادياً للمزيد من مسبّبات التباعد وعوامل الانقسام والانهيار.