نفّذت حركة حماس عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأوّل الفائت، منطلقة من مبدأ أن تنفيذ هذه العملية يستحق المخاطرة من أجل تحقيق جملة من الأهداف، ومنها:
أسر بعض الإسرائيليين لمبادلتهم بمحكومين ومعتقلين فلسطينيين بينهم نساء وأطفال.
كبح اتفاقات التطبيع ما بين بعض الدول العربية وإسرائيل، والأهم المملكة العربية السعودية.
إحياء مشروع إنشاء دولة فلسطينية.
ضرب أسس الأمن القومي الإسرائيلي.
كانت حماس تدرك أنّها تفتقر إلى القدرات العسكرية اللازمة لإحداث هزيمة أو حتى خرق في بعض وحدات الجيش الإسرائيلي، خاصّة أنّ عدة دول عربية رفضت دعمها، من دون علمها بمخطّط الهجوم.
أمّا بالنسبة إلى إسرائيل وما تمتلكه من أجهزة استخباراتية عالية المستوى، فهل من السهل تصديق أنّها لم تكتشف ما كانت تخطّط له حماس لأكثر من سنتين، أم أنّها من المحتمل اكتشفت ذلك وتغاضت عنه إمّا لتوظيفه لاحقاً أو ظنّاً منها أنه سيكون محدوداً أو حتّى مستحيل التحقيق؟
ويبدو ان إسرائيل كانت على يقين بأنّ أنظمة الدولة العربية أو الحركات العربية أو الإسلامية لم تكن ترغب في التحالف العسكري مع حماس أو تقديم أيّ دعم لها.
ووفق هذه المعطيات، يظهر أن قرار تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" كان أكثر تعقيداً، وإلى حدّ ما، كان أكثر نجاحاً ممّا كان يُعتقد في البداية من قبل الطرفين المتحاربين.
من دون أدنى شك، لقد فاجأ الهجوم الأجهزة الأساسية للاستخبارات الإسرائيلية الثلاث، وهي:
- أمان، التي تمثّل شعبة الاستخبارات العسكرية.
- الموساد، التي تمثل الاستخبارات الخارجية.
- الشاباك، التي تمثل الأمن الداخلي.
جميع هذه الأجهزة فشلت في فهم تفكير حماس، وتقدير حجم ما جرى، إذ تبيّن لاحقاً أنّ عملية 7 تشرين الأول لم تكن تهدف إلى هزيمة الجيش الإسرائيلي، بل إلى خلق بلبلة ما بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ودائرة صنع القرار، بالإضافة إلى زرع الشك داخل المجتمع الإسرائيلي بقدرة أجهزة استخباراته العاملة وجهوزية جيشه العسكرية.
أمّا في قضية الرهائن الإسرائيليين، وفي ظلّ عدم التوصّل إلى حلّ لقضيتهم، فقد شنّت إسرائيل هجوماً واسع النطاق على غزّة لفت انتباه العالم أجمع، وهذا ما فرض الكثير من الضغوط السياسية من أغلب دول العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، على إسرائيل من أجل أن توقف جرائمها التي حصدت نحو 100000 إصابة، بينهم حوالى 35000 شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء. ردّة فعل إسرائيل هذه كانت شأناً سياسياً بحتاً من أجل حماية بنيامين نتنياهو لنفسه ممّا سيلحقه عند توقّف الحرب.
إسرائيل، على الرّغم من قوّة جيشها واعتماده على أحدث تكنولوجيا في العالم، ارتكبت خطأً جوهرياً
إسرائيل الآن عالقة في حرب غزة مع حكومة جامدة لم ولن تقبل بأيّ تراجع إستراتيجي ونظام إعلامي ينتقد نهجها. لقد كان يُنظر إلى حماس على أنّها المسؤولة عن بدء الحرب، والآن، بات يُنظر إلى إسرائيل على أنّها هي التي تطيل في أمدها، وبعد هذه المجازر التي لا يمكن أن يتصوّرها أيّ عقل بشري، أصبحت إسرائيل هي المسؤولة الأولى عن هذه الجرائم، على الأقلّ، أمام مجتمعات أغلب الدول في العالم، إذا لم تكن على مستوى أنظمتها.
عند هذه النقطة، أصبحت الخيارات العسكرية المتاحة لإسرائيل محدودة جداً، والفضل في ذلك يرجع بدرجة كبيرة، إلى تحوّل الرأي العام العالمي، وخاصّة الأميركي منه. إنّ احتمالات القضاء على حركة حماس تتضاءل، لأنّ حماس، رغم ما تلقّته من ضربات موجعة وما ألمّ بها من خسائر مادية وبشرية وعلى مستوى القاعدة الشعبية، نجحت في تحقيق هدف ضرب البنية السياسية والعسكرية والاستخباراتية لإسرائيل. ولكن على ما يبدو، فإنّ إسرائيل لم تفهم بعدُ، أنّ هناك أنواعاً مختلفة من الحروب التي يمكن أن تكون إسفيناً يدَقُّ في نعشها.
يبدو أن إسرائيل، على الرّغم من قوّة جيشها واعتماده على أحدث تكنولوجيا في العالم، ارتكبت خطأً جوهرياً عندما أقنعت نفسها بأنّ جيشها هو جيش لا يقهر، ويشكّل قوة عالمية يعتمد عليه الجيش الأميركي الأقوى والأعظم عالمياً.
معلوم أن التكنولوجيا مهمّة للغاية في الحروب، لكن الأهمّ هم القادة الماهرون والحذرون الذين لا يبالغون في تقدير قوتهم أو يقلّلون من قوة الآخرين. الحرب ليست في العتاد والعديد فقط، الحرب تحتاج إلى شرعية وطنية تبرّر خوضها واستمرارها، وحشد الدعم لها على مستوى إقليمي ودولي، وإضفاء هالة حولها تمنع مساءلتها أو التشكيك فيها وفق إستراتيجية مناصرة ودعاية سياسية متقنة، متكئة على شبكة مصالح وعلاقات مع وسائل الإعلام العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي للتسويق لرواية واحدة للأحداث وحجب أي صوت آخر.
اعتقدت إسرائيل أنّها تملك كلّ هذا، لكن حجم ما ارتكبته من جرائم بحق المدنيين وانتهاجها أسلوب العقاب الجَماعي والحصار واستهداف المستشفيات والأطقم الطبية والإعلام، أدّى في نهاية المطاف إلى تداعي كلّ ما راهنت عليه، وأصبحت لأول مرة في تاريخها عاجزة عن لعب دور الضحية.