ليس جديداً القول إنّ "القروض هي الوقود لمحرك الاقتصاديات". كما ليس سرّاً أن توقف عملية الإقراض في لبنان منذ الانهيار في العام 2019 أدّى إلى الانكماش. إلّا أنّ هذه العلاقة، على أهمّيتها، ظلّت قابعة في الظلمة، في حين أن الأضواء مسلّطة على العراقيل التي تعوق استعادة القطاع المصرفي لدوره المحوري بشكل سليم في الاقتصاد.
كثيراً ما يرتبط النموّ في أيّ بلد من البلدان بعلاقة اطرادية مع توسّع الائتمان للقطاع الخاص. فيرتفع النمو العام مع زيادة معدّلات الإقراض، ويتراجع بتراجعها. وتختلف نسبة النمو المحقّق نتيجة الإقراض بين بلد وآخر تبعاً للعديد من العوامل المتعلّقة بحجم الناتج والاستثمارات والاستهلاك. وفي لبنان تبلغ هذه النسبة حدّها الأقصى. إذ إنّ "زيادة بنسبة 1 في المئة في القروض للقطاع الخاص (credit to private sector - CPS)، تُنتج زيادة بنسبة 0.83 في المئة في الناتج المحلّي الإجمالي. بعبارة أخرى: إنّ زيادة دولار واحد في الإقراض، ينتج منها زيادة بقيمة 83 سنتاً في الناتج المحلّي الإجمالي"، بحسب ما أظهرت دراسة لـ"بنك بلوم للاستثمار"، تحت عنوان: "الائتمان للقطاع الخاص: البطل المجهول والمنسي في الأزمة المصرفية". وقد بُنيت الدراسة على تحليل أرقام الحسابات القومية للاقتصاد، الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي بين العامين 2004 و2018.
البنوك وحدها هي التي يمكنها أن تلعب دوراً حاسماً في رفع النمو والتنمية في لبنان
توقّف التسليفات "جريمة" مالية
إذاً غنيّ عن القول إنّ تعطّل القطاع المصرفي وفقدانه للدّور الأساسي في تحويل الودائع إلى قروض للقطاع الخاص طوال الأعوام الأربعة والنصف الماضية "كانا بمثابة كارثة على الاقتصاد" بحسب دراسة بلوم للاستثمار. ذلك أنّ القروض تُعدّ عاملاً رئيسياً في رفع الناتج المحلّي الإجمالي ومستويات المعيشة، وخاصّة في بلد مثل لبنان حيث أسواق رأس المال بدائية وأسواق الأسهم الخاصّة لا تكاد تكون موجودة". وبالأرقام "تراجعت قيمة التسليفات للقطاع الخاص من 38296 مليون دولار في 30 أيلول 2019، إلى 8063 مليوناً في 31 آب 2023"، بحسب أرقام جمعية مصارف لبنان. بالتوازي تراجع الناتج المحلّي الإجمالي من نحو 64439 مليون دولار في العام 2018"، بحسب إدارة الإحصاء المركزي، إلى نحو 18.2 مليار دولار في العام 2023"، بحسب تقديرات البنك الدولي. وعلى هذا النحو، فإنّ توقّف الإقراض هو جريمة اقتصادية ومالية. حدثت وما زالت تحدث "دون أيّ إجراء على الإطلاق لإعادة هيكلة وإصلاح القطاع المصرفي من أجل إطلاق الائتمان للقطاع الخاص مرّة أخرى"، تتابع دراسة "بلوم انفست". و"لهذا السبب فإنّ هناك حاجة ماسّة إلى مثل هذا الإجراء الآن، وأهمّ من ذلك هو استعادة الثقة بالبنوك في نهاية المطاف، لأنّ البنوك وحدها هي التي يمكنها أن تلعب دوراً حاسماً في رفع النمو والتنمية في لبنان".
وطأة التوقّف عن الإقراض على القطاعات والأفراد
"إن لم يكن في البلد قطاع مصرفي قوي وسليم، فلن يكون هناك اقتصاد أو نمو"، عبارة طالما ردّدها عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عدنان رمال. وبغضّ النظر عن نسبة مساهمة التسليفات للقطاع الخاص في النمو، فإنّها ذات تأثير إيجابي مزدوج على الاقتصاد. فهي "تسرّع من جهة الاستثمار في القطاع الخاص. وبالتّالي ترفع الإنتاج وتفتح فرص التوظيف وتكبر بذلك الدورة الاقتصادية. وتعزّز من الجهة الثانية القدرة الشرائية للمستهلكين. فيرتفع الطلب على شراء السلع المعمّرة كالسيارات والأدوات الكهربائية وتملّك العقارات وشراء الأراضي. وهو ما يؤدّي بدوره إلى توسّع الاستثمار لتلبية الحاجات فيكبر تلقائياً الاقتصاد".
تشير الارقام إلى أنّ نسبة التغير الإيجابي في التسليف للقطاع الخاص بلغت حدّها الأقصى في لبنان في العام 2011، عندما ارتفع التسليف من 47829 مليون دولار في العام 2010 إلى 52604 ملايين في العام 2011، وبقيمة بلغت 9160 مليوناً. وعلى الرّغم من بقاء وتيرة التسليف تصاعدية منذ ذلك التاريخ فإنّ نسبتها لم تعد كبيرة. وقد تحوّلت إلى سلبية في العام 2018، أي قبل عام من الانهيار إذ تراجعت من 69990 مليون دولار في العام 2017 إلى 64700 مليون في العام 2018، وبنسبة تغيّر سلبي بلغت 5290 مليون دولار. ولا يمكن عزل انخفاض وتيرة التسليف وتحولها من الإيجابي إلى السلبي عن اتجاه المصارف إلى توظيف الودائع في مصرف لبنان بشكل كبير"، برأي رمال. "وقد أغرت المصارفَ نسبةُ الفوائد الباهظة التي دفعها المركزي لتنفيذ ما عرف بـ "الهندسات المالية". فتراجعت ابتداء من العام 2016 عن التوسّع بإقراض القطاع الخاص أو توظيف فائض ودائعها في التسليفات الخاصّة لقطاع الأعمال والأفراد، وتوجّهت إلى تسليف الدولة عبر مصرف لبنان بفوائد تراوحت بين 18 و30 في المئة، في حين لم تتجاوز نسبة الفوائد على قروض القطاع الخاص 8 في المئة، وعلى قروض الأفراد بين 5 و9 في المئة بحسب نوع القرض". وعليه، فإنّ إحجام القطاع المصرفي عن تمويل القطاع الخاص بآخر أربعة أعوام ارتدّ سلباً على الاقتصاد وأدّى إلى بدء تقهقره دراماتيكياً وصولاً للانهيار في العام 2019.
وجود قطاع مصرفي سليم هو الأساس
الخروج التدريجي لملفّ التسليف للقطاع الخاص من الظلمة إلى دائرة الضوء أخيراً يعود، بحسب رمّال، إلى المرحلة التي سبقت انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. إذ أسرّ الأخير إلى مجموعة من الاقتصاديين ورجال الأعمال بمصلحة المصارف والاقتصاد بعودة الإقراض. إلّا أنّ هذه العملية لن تنجح ما لم تترافق مع إصدار قانون يسمح للمصارف بالتسليف من الأموال النقدية التي عادت للتجمّع في خزائنها بقيم كبيرة، وضمان إعادة القروض بعملة القرض نفسها، أيّ بالدولار. إلّا أنّه نظراً لأنّ "صوفة" المركزي وجمعية المصارف "أصبحت حمراء"، فمن الأفضل أن لا يُقترح المشروع من قبلهما بل أن تتبنّاه جهة مستقلّة منعاً لعرقلته. وعلى الرّغم من أهمّية الطرح الذي تحوّل، قبل شهر، اقتراح قانون تقدّم به نواب من الجمهورية القوية بهدف إعادة تفعيل النشاط وتحريك عجلة الاقتصاد وتسريع دورته ومساعدة القطاعات على الاستثمار، والأفراد على تلبية الحاجات، فإنّه "لا يزال يواجه بانعدام ثقة المودعين بالنظام المصرفي"، بحسب رمال. "فالمصارف ستقرض من أموال "الفريش" الناتجة من تحويلات لا من المستوطنة بشكل نهائي البنوك. كما لن تتمكّن المصارف من جذب ودائع بقيم كبيرة ومستدامة من أجل السير بعملية الإقراض على نحو منظّم وبوتيرة تصاعدية تحقّق منفعة فعلية للاقتصاد. والعقدة الثانية التي ستواجه هذا المشروع هي معارضة المودعين له. فهم لن يتقبّلوا رؤية المصارف تعاود الإقراض بـ"الفريش" دولار في حين أن ودائعهم عالقة ويحصلون على الفتات".
ما دامت الحلول العامّة لإعادة هيكلة المصارف مؤجّلة، والمبادرات الفردية لتنظيم الأوضاع من المصارف معلّقة، فستبقّى الأمور تراوح مكانها. ذلك مع العلم أنّ "ثمة مصارف تستطيع رفع رساميلها وتحسين ملاءتها والعمل على إجراءات لاستعادة ثقة مودعيها بحسب كلّ حالة بحالتها"، يقول رمال. وبالتالي، تعود لممارسة عملها بشكل طبيعي من دون الحاجة إلى انتظار الخطط العامّة التي قد لا تأتي على الإطلاق. ولها بذلك تجربة ناجحة اعتمدها القطاع الخاص مكنّته تدريجياً من استعادة عافيته ولو أنّه تحمّل بعض الخسائر".