يواجه موظفو القطاع العام استحالة السير بكلّ ما يُطرح من حلول عادلة ومقبولة لتحسين رواتبهم. فالاقتصاد اللبناني المنهك يعاني عدم الاستجابة لإجراءات زيادة الرواتب بسبب تراجع كفاءة وظائف سياساته النقدية والمالية. مثله، مثل كبار السنّ الذين يعانون السمنة المفرطة والفشل الكلوي والتشمّع الكبدي. وهي العوامل التي تُفقد أقوى الأدوية مفعولها.
فشل الاقتصاد بالأرقام
المعضلة الأساسية التي تحول دون إقرار زيادات مقبولة على رواتب الموظّفين لا تتعلّق بعدم توفر الأموال، إنّما بعدم القدرة على الإنفاق تجنّباً لعودة التضخّم للارتفاع. فالدولة كانت تجبي في الأشهر الأخيرة من العام 2023 حوالى "20 ألف مليار ليرة شهرياً، أو ما يعادل 224 مليون دولار على سعر صرف السوق"، بحسب تصريحات حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في أكثر من مناسبة. في المقابل تبلغ التكلفة الشهرية لرواتب 400 ألف موظّف في القطاع العام نحو 6265 مليار ليرة، أو ما يعادل 70 مليون دولار. بمعنى آخر، تشكّل تكلفة الرواتب الشهرية 31.3 في المئة من مجمل المداخيل، وهي بالمناسبة حصّة الرواتب نفسها من الإيرادات قبل الانهيار. "ومن الممكن زيادة حصّة الرواتب ما بين الضعفين والثلاثة أضعاف"، بحسب بعض الدراسات. "خصوصاً في ظلّ التوقّع بارتفاع إيرادات الخزينة الشهرية إلى نحو 250 مليون دولار تبعاً لأرقام موازنة 2024، وإحجام الدولة عن الإنفاق الاستثماري. وهذا ما يسمح لها بإدخال تحسينات جذرية على الرواتب والتقديمات الاجتماعية إلى الموظفين".
وضع مصرف لبنان حدّاً أقصى للإنفاق الحكومي مقداره 8500 مليار ليرة أو ما يقرب من 95 مليون دولار.
الزيادات المقترحة على الرواتب
هذه الآراء ترجمتها دراسة رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي. إذ قضت الدراسة بإعطاء الموظّفين حوافز تراوح ما بين مليون و600 ألف ليرة ومليونين و 800 ألف ليرة، عن كلّ يوم حضور فعلي ولعشرين يوماً حدّاً أقصى. ورفع بدل النّقل إلى قرابة مليون ليرة. وهو ما يرفع متوسّط الأجر الشهري من نحو 175 دولاراً إلى 430، ويمثّل زيادة بنسبة 70 في المئة (من دون احتساب بدل النّقل المضاعف)، ويرفع الكلفة الشهرية الإجمالية للرواتب إلى نحو 15.5 ترليون ليرة أو 172 مليون دولار. إلّا أنّ هذا الرقم يصطدم بأمرين أساسيين:
وضع مصرف لبنان حدّاً أقصى للإنفاق الحكومي مقداره 8500 مليار ليرة أو ما يقرب من 95 مليون دولار. ذلك أنّ أيّ إنفاق فوق هذا الرقم سيزيد الطلب المباشر وغير المباشر على الدولار في سوق الصرف، ويؤدّي إلى عودة الدولار للارتفاع مقابل الليرة. وهذا يفاقم من جهة أولى معدّلات التضخّم التي "عادت لتصل إلى حدود 177" ، بحسب أرقام الإحصاء المركزي مطلع هذا العام. ويقوّض من جهة ثانية كلّ الزيادات التي تعطى مهما بلغت قيمتها.
تخصيص موازنة 2024 مبلغ 25300 مليار ليرة فقط (283 مليون دولار) من ضمن احتياطي الموازنة لصرفه على بعض المساعدات والزيادات على الرّواتب والأجور"، بحسب تصريح لوزير المال يوسف الخليل. "ولا يمكن تخطّي هذا المبلغ وأيّة إضافة على المبلغ تستوجب من المجلس النيابي إصدار قانون بفتح اعتماد إضافي لرفع قيمة هذا البند".
الزيادات على الرواتب عالقة في عنق الزجاجة
بإزاء هذا الواقع، تبدو طروحات الزيادات على الرواتب عالقة في عنق الزجاجة، فلا الدولة تستطيع زيادة المبالغ المدفوعة ولا الموظفون سيعودن إلى عملهم ما لم ينالوا ما يطالبون به. وعليه، لم يعد الحلّ متعلقاً بالدواء بذاته، وهو زيادة الرواتب في حالتنا الراهنة، إنّما بمعالجة مشكلة الاقتصاد المتمثّلة في حجم القطاع العام ومعالجة تشمّع سعر الصرف وفشل السياسات المالية المزمن.
مؤسسات وإدارات تكلّف الدولة آلاف المليارات ولا تقوم بأي عمل
بالإضافة إلى فائض الموظفين في العديد من القطاعات الفاعلة، خصوصاً إذا ما قورنت بمدى انتاجيتها، فإنّ في لبنان عشرات المؤسسات "الخامدة" التي أنشئت بعد الحرب الأهلية تُنفق عليها المليارات، لم يعد لوجودها أيّ مبرّر. من هذه المؤسسات عرضت "الدولية للمعلومات" إلى الآن 4 من أصل 13 وزارة وإدارة، وهي: اليسار، والمؤسسة العامّة للأسواق الاستهلاكية، والصندوق المركزي للمهجرين ووزارة المهجرين. وبحسب الدولية للمعلومات خُصّصت هذه المرافق الأربعة بمبلغ يفوق 70 مليار ليرة في موازنة 2024، أي نحو مليون دولار. والمبالغ مخصّصة لدفع الرواتب وفواتير الكهرباء والإيجارات والتنظيف واللوازم المكتبية ليس غير. من دون أن يكون لها أيّ دور فعلي. هذا مع أنّها لم تقم بالدور المنوط بها خلال الفترة الماضية رغم إنفاق مليارات الدولارات عليها. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فإنّ مؤسّسة أليسار أنفقت أكثر من مليار دولار منذ إنشائها في العام 1995 لإخلاء منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لبيروت من المقيمين الذين قبضوا ولم يخلوا المنطقة، واستمرّ الوضع على حاله.
إصلاح سعر الصرف
من العوامل الأساسية التي تسمح بزيادة الرواتب للموظّفين هو حماية سعر الصرف، ولن تتوفّر هذه الحماية إلّا في حالة من اثنتين:
تطبيق الإصلاحات الهيكلية المطلوبة من صندوق النقد الدولي، ومنها إعادة هيكلة المصارف، وسد الفجوة النقدية في مصرف لبنان، وعودة الانتظام المالي، وتحرير سعر الصرف.
دولرة الجباية، وهو ما يسمح للدولة بتسديد الرواتب بالدولار مباشرة، من دون أن تعرّض سعر الصرف للاهتزاز. وإذا افترضنا دولرة رواتب القطاع العام بنسبة 100 في المئة، وفي ظلّ دولرة الأجور في القطاع الخاص بنسبة لا تقلّ عن 60 إلى 70 في المئة ينخفض الطلب على الدولار في السوق الموازية ويتراجع التضخّم. إلّا أنّ هذه النظرية تلاقي رفض قسم كبير من المدافعين عن السيادة الوطنية. إذ من شأن دولرة الرواتب من بعد دولرة أسعار السلع والخدمات والرواتب في القطاع الخاص، إدخال البلد في ما يعرف بـ full dollarisation والقضاء على ما يعنى بالاستقلالية النقدية.
إصلاح المالية العامة
إضافة إلى العاملين السابقين، يظهر أنّه لا يمكن إصلاح المالية العامة للدولة في ظلّ "اقتصاد نقدي بنسبة تصل إلى 50 في المئة"، بحسب البنك الدولي. وهو ما يشجّع على ارتفاع نسبة التهرّب الضريبي بشكل كبير جداً. هذا علاوة على عدم ضبط الحدود والمعابر البرية والبحرية والجوية. وبحسب دراسة لبنك عودة، فإنّ قيمة التهرب الضريبي وصلت إلى 4.5 مليار دولار في العام 2018. وحديثاً، أعلنت "منظّمة الشفافيّة الدوليّة، الرائدة في مجال مكافحة الفساد"، في بيان، "نتائج مؤشّر مُدرَكات الفساد (CPI) للعام 2023 في كلّ البلدان، أنّ لبنان حصل على نتيجة 24/100 واحتلّ المركز 149 من أصل 180 دولة خضعت للتقييم، مسجّلاً بذلك النتيجة الأدنى لثلاثة أعوام متتالية، وهذا ما يؤكّد الحاجة إلى معالجة الوضع بشكل عاجل واتّخاذ إجراءاتٍ تصحيحيّة". ومن هذه الاجراءات:
التطبيق العاجل لقانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات الرقم 28/2017.
الشفافية في الإفصاح عن أصول الموظّفين العموميّين.
تنفيذ إستراتيجية الشراء العام واستكمال إنشاء نظام الشراء الألكتروني، وتعيين هيئة الشراء العام، وتشكيل لجنة للشكاوى.
تفعيل عمل الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد.
ضمان استقلال القضاء.
خلافاً لكلّ الاجراءات المنطقية التي تمكّن الدولة من إصلاح سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، تستمرّ الحكومة في إعطاء المسكّنات. فتقرّ زيادات ضئيلة على الرواتب لا تدخل في صلب الراتب، ولا تُحتسب في تعويضات نهاية الخدمة. وبالتالي، لا تحفّز الموظّفين على العمل. فتبقى الدوائر والإدارات معطّلة تفوّت على الخزينة مليارات الليرات من الإيرادات.