كثرت التحليلات عن أسباب تأجيل رئيس الحكومة جلسة مجلس الوزراء التي كانت مُقرّرة نهار الجمعة المُنصرم. وتمّ حصر هذه الأسباب في تحرّك العسكريين القدامى الذي أدّى إلى إقفال مداخل السراي، والانقسام الحكومي بشأن الخطّة. بالطبع، فإنّ السبب الأول غير مُقنع بحكم أنّه في الجلسة السابقة، دخل بعض الوزراء في آليات تابعة للجيش اللبناني. ولو كان هناك نيّة فعليّة لانعقاد جلسة، لطُلب من الجيش تأمين سلامة الوزراء ووصولهم إلى الجلسة. وهذا ما لم يحصل. أمّا في ما يخصّ السبب الثاني – أي الانقسام الحكومي – فمن الواضح أنّه السبب الرئيسي، وبالتحديد رفض وزراء الثنائي الشيعي والحزب التقدمي الاشتراكي للخطّة. وتقول المصادر إنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تلقّى اتصالات حثّته على تأجيل الجلسة تحت طائلة خروجها عن مسارها سواء كان من باب تعطيل النصاب أو من باب المواجهات الكلامية داخل المجلس.
ثمة مراقبون رأوا في إصرار الرئيس ميقاتي على إقرار خطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، رغبة في تسجيل نجاحٍ معيّنٍ لحكومته، خصوصًا أن هذه الحكومة واجهت كثيرًا من الصعوبات سواء من باب التشكيك في صلاحياتها أو من باب تعطيل اجتماعاتها. أمّا البعض الآخر، فعزا هذا الإصرار إلى رغبة الرئيس ميقاتي ونائبه في إرضاء صندوق النقد الدولي الذي يُصرّ على عدم تحميل الأجيال المستقبلية تداعيات الدين العام الممزوج بالفساد، وعلى تغيير واجهة القطاع المصرفي لما لهذه الواجهة من تداعيات سلبية على علاقته بالصندوق.
مسودّة مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي كما طرحتها الحكومة، تواجه صعوبات واعتراضات
ويبقى الاهتمام مسلّطًا على ما بعد الرفض الواسع من قبل المصارف، وبعض القوى السياسية (وزاريًا ونيابيًا)، والعديد من الخبراء، وقسم من المودعين، وبعد إصرار الرئيس ميقاتي على دعوة مجلس الوزراء إلى جلسة هذا الأسبوع من أجل بحث الخطّة؟ هل تبقى مُسودّة الخطّة كما هي أم ستُعدّل؟ وماذا عن قرار مجلس شورى الدولة الذي من المفترض أنّه نسف الخطّة من أساسها؟
مصادر "الصفا نيوز" تُشير إلى أنّ مسودّة المشروع ستبقى كما هي من دون تعديل على أن يُظهر الرئيس ميقاتي ترحيبه بأيّة اقتراحات يطرحها الوزراء. الهدف من ذلك هو التخلّص من هذا الملفّ الشائك وإرساله إلى المجلس النيابي. وتُضيف المصادر أنّ التباعد في نظرات الوزراء (ومن خلفهم القوى السياسية) إلى هذا الملف، سيجعل حظوظ مسودّة المشروع بالإقرار أعلى، خصوصًا إذا قام رئيس الحكومة باللعب على التناقضات بين الوزراء، اللهم إلّا إذا وضعت بعض القوى الفاعلة في الحكومة "فيتو" على المشروع، وهو أمر ورادٌ جدًا، وبالتحديد من قبل الثنائي الشيعي و"الاشتراكي".
من جهة المجلس النيابي، من الواضح أنّ هناك تكتّلاً صلبًا من النواب الرافضين للمشروع، وعلى رأسهم رئيس لجنة الإدارة والعدل ورئيس لجنة المال والموازنة ونائب رئيس مجلس النواب... ويتسلّح النواب الرافضون لهذه المسودّة بقرار مجلس شورى الدولة الذي يمنع ليس إقراره فحسب بل كذلك إصدار أيّ قانون ينصّ على شطب ديون الدوّلة بحكم أنّ هذه الديون هي من أموال المودعين، وهو ما يُشكّل مخالفة للدستور (الملكية الفردية). ومن أسباب الرفض أيضاً تخوّف بعض النوّاب من ردّة فعل الناخبين في الانتخابات النيابية (إذا ما حصلت!) في العام 2026، وبالتالي، تحميل النواب مسؤولية تطيير الودائع.
مما تقدّم، يتبدّى أنّ مسودّة مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي كما طرحتها الحكومة، تواجه صعوبات واعتراضات من داخل الحكومة ومن خارجها، وهو ما يُرجّح إسقاطها في الحكومة أو في المجلس النيابي.
ويبقى السؤال: كيف ستتطوّر علاقة لبنان مع صندوق النقد الدوّلي إذا سقط المشروع؟
المعروف عن صندوق النقد الدولي امتلاكه شروطًا يفرضها على البلدان التي تطلب مساعدة مالية منه. ويترجم هذه الشروط – التي هي وصفة موحّدة لكلّ البلدان – إلى مشاريع قوانين وإجراءات يتحتّم على الحكومة القيام بها.
ما لا نعرفه، بالتحديد، هو مدى عمق المطالب الصندوقية من لبنان، وإذا ما كان فعلًا طلب صندوق النقد الدولي شطب الودائع! إلّا أنّ الأكيد أنّ صندوق النقد الدولي لن يقبل تحميل الدين العام الذي يعتبره نتاج فساد، للأجيال المستقبلية. كما أن لا قدرة للدولة اللبنانية على تحمّل هذا الدين الذي وصل إلى حدود الـ 500% من الناتج المحلّي الإجمالي.
بالطبع، يمكن هذه النسبة أن تتغيّر سريعًا إلى الأفضل لو أنّه يتمّ العمل على تحفيز نمو الاقتصاد الرسمي. وللتذكير، كان الناتج المحلّي الإجمالي اللبناني يوازي 20 مليار دولار أميركي في العام 2003، ووصل إلى 55 مليارًا في العام 2018 – أي تضاعف بنسبة 2.75 مرّة خلال خمسة عشر عامًا. ولو اُستُثمر بشكل سليم خلال هذه الفترة لوصل إلى 150 مليارًا في العام 2018 أي تضاعف بنسبة 7.5 مرات عما كان عليه في العام 2003! وهذا يعني أنّ هذه النسبة – أي 500% - كان من الممكن أن تتراجع بالنسبة نفسها لو تم تعظيم الناتج المحلّي الإجمالي.
تاريخ صندوق النقد الدولي مع الدول التي طلبت مساعدة مالية منه، ولم تلتزم بالإجراءات (حتّى بعد توقيعها)، يُشير إلى أنّ الصندوق لم يتخّل عن هذه الدول وبقي مُلتزمًا بمهامه التي تنصّ على مساعدة الدول في ماليتها العامّة. ورفضُ لبنان لمشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي بصيغته الحكومية، سيُعقّد حكمًا العلاقات مع صندوق النقد الدولي، إلّا أنّه لن يؤدّي إلى قطعها. وبالتالي من الأجدى أن تعود حكومة الرئيس ميقاتي إلى صندوق النقد الدولي والبحث معه في عدّة خيارات توضع أمام المُشترع اللبناني على أن يتحمّل هذا الأخير نتائج قراره. فمثلًا، قبل إرفاق هذه الخطة – أو معها – توضع اقتراحات الاستفادة من أصول الدولة المعطّلة التي لو كانت الحكومات صادقة في خدمة المصلحة العامة للجأت إليها أولًا في تغطية أعبائها لا إلى زيادة الضرائب على شعب منهك في أمور حياتية لا بد منها مثل إخراجات القيد وما شابهها، وهي لا تمسّ الاغنياء والمقتدرين فحسب.
إذًا، لا يُمكن حكومة الرئيس ميقاتي – وهي حكومة تصريف أعمال – إلزام الشعب اللبناني بتداعيات مالية واقتصادية ستمتدّ حكمًا عقودًا من دون أن تنال موافقة هذا الشعب. ولا طالما لا تُشارك هذه الحكومة اللبنانيين في الودائع المجمدة فمحال أن تطلب منهم قانونًا ينصف المودعين.
ومع الوتيرة التصاعدية للاعتداءات الإسرائيلية على الحدود الجنوبية، يُطرح السؤال الجوّهري عن قدرة لبنان وشعبه على تطبيق خطّة الحكومة بصيغتها الحالية (في حال إقرارها)، خصوصًا أنّ موازنة العام 2024 أثقلت الناس بالضرائب والرسوم.